زياد جسام/
كان التجريد في الفن التشكيلي العراقي والتجارب الفكرية هما السمتين الواضحتين، ولاسيما في أعمال الكثير من جيل الفنانين الرواد وما بعدهم، حتى أن الاتجاهات الأخرى تراجعت أمام هذه النزعة. أما الآن -في وقتنا الحالي- فقد تراجعت الحركة التجريدية بشكل لافت للنظر، ففي المعارض الحالية المختلفة نلاحظ طغيان التجارب التعبيرية والواقعية والتشخيص الواضح.. فما أسباب هذه التحولات؟ هل تعد تماشياً مع رغبة المتلقي البسيط، أم أن هناك أسباباً أخرى؟.. لمعرفة الجواب أجرينا هذا الاستطلاع مع بعض الفنانين للوقوف على هذه التساؤلات:
تحدث الفنان التشكيلي (حسن إبراهيم) عن الرسم التجريدي في العراق، فوصفه بأنه أحد الاتجاهات التي يمتاز بها نتاج الوسط التشكيلي، برغم قلة الفنانين الذين اتخذوا التجريد بأنواعه ميزة لأعمالهم ونتاجهم الفني، مضيفاً: «هذا الأداء الذي يبتعد عن التشخيص والمرئيات والمتشابه عن هيئة الطبيعة والواقع، يعتمد على مقدرة الفنان في إظهار المتخيل والمستمد من الواقع في حالة أخرى، بشكل أو بدونه، وغالباً ما يكون بمعالجة سطح العمل بالاستعانة بمواد مختلفة غير تقليدية للرسم (خشب، مواد بناء، لواصق، جرائد، قماش، ألوان وأحبار.. إلخ)، باختصار يمكن للفنان أن يطوع أية مادة في إظهار العمل الفني بالطرق التي يفترض الفنان أنها هي الأمثل.»
أما عن إشكالية الطرح والأسلوب واتخاذ مدارس فنية واتجاهات أخرى غير التجريد عند غالبية (الرسامين) في التشكيل العراقي فقال: «هي ظاهرة فنية إيجابية تصب في صالح العملية الإبداعية، وهذا التعدد يعطي زخماً نوعياً وأبعاداً فكرية جمالية صحية، لكن عكس ذلك هو حالة مرضية ونكوص إبداعي، هناك حالات سببها الجمود والتكرار السلبي في تنفيذ اللوحة أي (اللوحة الواحدة)، التي يكون الفنان أسيراً لها، والدافع الأكبر هو التسويق وبيع الأعمال الفنية، ونزولاً عند رغبة المقتني الذي يميل في الغالب للأعمال ذات الطابع التشخيصي والفكرة الجاهزة التي تغازل مخيلته وذائقته.»
مساحة التأثير
أما الفنان (د. مكي عمران) فقال: “التجريد كاتجاه أخذ مساحة كبيرة من خطاب التشكيل الفني في فنون الحداثة وبعض نماذج من فنون ما بعد الحداثة، كما أن عملية إقصاء الشكل أو الأنموذج الواقعي من مساحة التصوير قد تلاشت مع سبعينيات القرن الماضي، وجرت العودة للشكل الواقعي إلى اقصى حد، بما هو معرف بالواقعية المفرطة، كرد فعل لطغيان التجريد والتعبيرية التجريدية بأصولها الأميركية بشكل لافت. والتشكيل العربي والعراقي غير منقطع عن الركب والتطور الحاصل في التشكيل العالمي، ومساحة التأثر لا تحتاج إلى إيضاح أو دلائل منذ الخمسينيات، آخذين بنظر الاعتبار أن زخم الاستجابة للشكل الواقعي وبلغة تعبيرية قد أرستها الدراسة الأكاديمية في معهد وكلية الفنون الجميلة، وكان لأستاذنا فائق حسن، مع بعض الفنانين الرواد، دور كبير في ترسيخ ذلك. لذا تخرج المئات ممن يسيرون وهم مفتونين بنهجه، وقد أخذ الكثير منهم يتلمس الاستجابة الجمالية لدى شرائح واسعة من المتفاعلين بذائقتهم تجاه الأعمال الواقعية البسيطة في موضوعاتها ذات الطابع والمناخ البيئي الشعبي، مع مسحة سياحية – تسويقية في بعض الأحيان، فتزاحم الكثير في ترسيخ ذلك الاتجاه، بعيداً عن منظومته الجمالية والفكرية المعروفة. إلا أن بعض التجارب المائزة تحاول أن تجعل مسار التشكيل العراقي في الاتجاه الصحيح، مستغرقة بتجاربها المفاهيمية في تقصيها لموضوعات هامة ومؤثرة مع اجتراح أساليب وأنماط تعبيرية مغايرة، تعيد لأذهاننا أهمية ودور التشكيل العراقي ومساحة تأثيره.»
التجارب المتجذرة
من جهته، يؤكد الفنان (د. محمد الكناني) أن «غياب وانحسار العمل الفني ذي النزعة التجريدية عن المشهد التشكيلي العراقي، مع بقاء التجارب المتجذرة في مرجعياتها حاضرة بقوة في المشهد البصري، ما هو إلا حالة من التحول تمر بها معظم الشعوب الناهضة التي تؤكد على التسويق واقتصاد السوق، مع ذائقة لا تثق إلا بالمرئي كشاهد جمالي مؤثر على جدران العرض، وهذا التحول لا يشكل سوى مساحة محدودة إزاء الفنون المعاصرة التي تشكل تحدياً حقيقياً لذائقتنا وثقافتنا البصرية والجمالية.»
وذكر الكناني بعض الأمثلة عن الاتجاهات الفنية في العراق، كالفنان شاكر حسن آل سعيد الذي كان اتجاهه يصب في البعد الواحد، ومحمد صبري في واقعية الكم. أما المجددون (على حد وصفه) فقد كانوا متمردين على هذه الاتجاهات، مثل رافع الناصري، وضياء العزاوي، ومحمد مهر الدين، واسماعيل فتاح، وصالح الجميعي، وسالم الدباغ. هذا التدفق نحو المستقبل، هو الذي جعلهم يعيدون تشكيل أنساق جديدة في الفن العراقي الحديث والمعاصر، تناسب المناخ الثقافي الذي يطمح إلى تشكيل مفهوم لهوية متفردة، سبيلهم فيها العودة إلى التراث والحرف العربي والزخرفة كمرجعيات للنتاج الفني الذي تبلورت صورته كمشروع ثقافي كبير، بالعودة إلى الجذريات الأولى للأشكال بنقائها الأول وبعديها، الفلسفي والجمالي، كحمولات رمزية، أطرت تجاربهم الطليعة. مضيفاً: «كانت سمة التجريد التي ميزت تجارب الأسماء التي ذكرتها سلفاً، بمثابة خط الشروع الأول لمشروعهم الجديد، وهي ترجمة لوعي وثقافة التأسيس والريادة الجمالية التي تعود بهم إلى فجر الحضارة العراقية بأطوار الخزف الأربعة التي ميزت التجريد والاختزال في الشكل والتكوين، وخصائص أعمالهم، غير مكترثين بنزعات الرفض الأولى لتجاربهم، لكنهم ناضلوا لكي يكونوا طليعة المجددين، وقد أثرت تجاربهم في أجيال كاملة.»
بصمة مهمة
الفنان المغترب (سعد علي) كان له رأي مختصر جداً حول هذا الموضوع، إذ قال: «الفن مد وجزر، ورياح الشمال تختلف عن رياح الجنوب، فهو يحتاج إلى الصبر، والتمتع به، وإلى عيون سباقة للحداثة. باعتباري أقيم في إسبانيا وأتجول في العديد من بلدان العالم، أحياناً أقارن بين ما يجري فيها من تطور على المستوى التشكيلي وبين الفن في العراق الآن، فألمس أن معظم ما يأتي إليكم يكون متأخراً، وهذا لا يهم إذا كان الفنان التشكيلي سباقاً للمعرفة والاجتهاد، ومثابراً يريد أن يترك بصمة مهمة لما يأتي بعده من أجيال.»