كتابة: ماريا إيليادس – ترجمة: جمال جمعة/
أمضى الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافي، الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالإسكندرية، ثلاث سنوات من فترة شبابه في بلدة ينيكوي. كانت والدته ابنة تاجر ألماس قسطنطيني من ينيكوي، جورج فودياديس، والذي أعارها منزله هناك، حيث كتب الشاعر البالغ من العمر 19 عاماً آنذاك أولى قصائده باللغات الإنجليزية، الفرنسية، واليونانية. الكاتبة الأمريكية، اليونانية الأصل، ماريا إيليادس تحكي عن تجربتها في البحث عن منزل كافافي في إسطنبول.
اجتياز الحاضر
حينما شرعت أول مرة بالعثور على منزل قسطنطين كافافي الأموميّ قبل خمس سنوات، صديقاتي وأنا حسبنا بأنّا إذا يمّمنا شطر الكنيسة المحلية الواقعة في نيوتشوري Neochori ، (حالياً تدعى Yeniköy)، فسنحصل على أفضل النتائج. فالشاعر اليوناني الاسكندري أمضى ثلاث سنوات من حياته، من عام 1882 إلى 1885، في تلك القرية التي كانت تهمين عليها اليونان في القسطنطينية آنذاك. عدا ما عرفناه لاحقاً بأنه كان يتمشى على امتداد مضيق البوسفور من تلك النقطة على طوال الطريق إلى بيرا Pera (بالتركية: بايوغلو Beyoğlu)، والذي ينبغي أن يكون مأثرة حتى في ذلك الوقت، فلم نكن نعرف سوى القليل عن حياة كافافي في إسطنبول، على الرغم من أننا استنتجنا، استناداً الى أعماله، أن زمنه الذي قضاه في تلك المدينة كان أحد أسباب استيقاظ هويته، فكره، وربما حتى ـ رغم أن هذا غير معروف ـ جنسانيته.
أعمال كافافي الأولى كانت حصيلة لمرحلته القسطنطينية، مثل “مغادرة ترابيا”، التي تحمل شبهاً قليلاً في عاطفتها المشبعة بأعماله المتأخرة، والتي قد تكون لها علاقة بحقيقة أن أعماله المبكرة كانت مكتوبة بالإنجليزية، ومن ضمنها ما ذكرناه آنفاً. أعماله المتأخرة التي اشتهر بها، من ضمنها قصيدة “إيثاكا”، وهو عمل قد يكون معروفاً على نطاق أوسع انتشاراً لأنه سُجِّل ذات مرّة بصوت الممثل سين كونري، و “في انتظار البرابرة”، وكلها مكتوبة باللغة اليونانية بأسلوب يتحول بالتدريج إلى مباشر وغامض، لكن بطريقة لا تزال تخترق الزمن لتغرس صلة بين الشعور والزيف. موضوعاته تتسع إلى ما وراء حاضره لتشمل كل شيء، ابتداءً من الشيخوخة والتأملات في مقالات قصيرة من التأريخ البيزنطي، الروماني، واليوناني القديم إلى تفاصيل علاقاته الغرامية الخاصة.
كافافي .. لقد سمعت بهذا الاسم!
ثمة مقاومة وشعور بالاستسلام في أن تكون مرتبطاً بمكان واحد إلى هذه الدرجة، وعند عودتي إلى إسطنبول عام 2011، صديقاتي وأنا، جربنا حظنا في العثور على منزل كافافي الأمومي حيث أمضى تلك السنوات المرهفة بالذهاب إلى قداس الأحد الديني في كنيسة باناجاريا كوماريوتيسا. شعرنا كذلك بالاستسلام، أو حتى الغبطة بالتواجد في المدينة، على الرغم من علمي بأنني سأغادر المدرسة في غضون بضعة أشهر. تبعنا الأبرشية بعد القداس إلى قاعة الكنيسة لتناول الشاي والكعك اللذيذ ثم توجهنا بالسؤال مباشرة إلى أكبر الأعضاء سناً حول منزل كافافي.
“كافافي… كافافي… كافافي… لقد سمعت بهذا الاسم من قبل، لكن لماذا يتوجب علي الاهتمام بالأموات طالما الحياة مليئة بالمشاكل؟”
أعدت قدح الشاي الشبيه بزهرة خزامى، والذي اعتقدت أنه كأس ويسكي، ثم غادرت مع أصدقائي بعد برهة قصيرة لكي نكتشف الحي. من الواضح أن الجماعة لم يكونوا يعرفون شيئاً عن كافافي أو لا يرغبون بالحديث عنه.
أنا أيضاً هيليني
هذه السنة، مع محاولة أخرى للعثور على كافافي عرفت مرة أخرى بأنني سأغادر مع مطلع العام الجديد. لقد بدا وكأنني حين أغادر إسطنبول، وهي مدينة لم أعتقد أبداً بأنني سأبقى فيها بشكل دائم، ومع ذلك أفاجأ أنه في كل مرة أضع فيها خططاً للمغادرة، يستحثني حافز للبحث عن هذا المعبود الأدبي. لذا انطلقت مرة أخرى ، مع صديقة لغوية، للعثور على المنزل، لأكافأ فقط بتمثال نصفي للشاعر ينتصب على قاعدة خارج كنيسة بانجيا كوماريوتيسا مع سطور من قصيدة “نيتشوري” باليونانية والتركية. تركيا غير مشهورة تماماً بوضع إشارة على الأماكن المعروف بأنها تضم شخصياتها الأدبية، الفنية، أو حتى التاريخية المهمة، مع استثناءات نادرة للأولياء المسلمين. في رحلة عبر الأناضول استدرت ذات مرة بعد رؤيتي لافتة لقبر الشاعر والصوفي يونس إيمري، من القرن الثالث عشر، لكن تلك كانت حالة استثنائية تماماً، ومن المحتمل حدثت لكونه يعتبر شخصية دينية جليلة للبعض في تركيا. في إسطنبول، صديقاتي وأنا قمنا بزيارتنا السنوية لقراءة الشعر واحتساء بعض الشراب عند قبر أورخان ولي، شاعر تركي من القرن العشرين، لكننا كنا نفعل ذلك لأننا نعرف مكان قبره فقط، وليس لأن ثمة علامات أو خريطة على بوابات المقبرة.
أن تكون كاتباً يونانياً أمريكياً عاش في إسطنبول، يعني أن تعيش في مكان لم يزل متميزاً بكونه قطباً فخرياً للعالم الهيليني الذي قطنه كافافي ذات مرة. كان المكان جسدياً وروحياً ولا يزال، مركزاً الثقافة الهيلينية بالمعنى الذي ألمح إليه كافافي بنفسه ذات مرة. قال، كما اقتبس دانيال مندلسون في ملاحظاته البليغة لإحدى الترجمات الرفيعة لأعمال كافافي الكاملة، “أنا أيضاً هيليني، ضع هذا في بالك، أنا لست يونانياً، ولا إغريقياً، بل هيليني”. لقد رأى نفسه منتمياً لمجتمع أرحب محدد باللغة والثقافة، لكن ليس بالضرورة أن يكون مكاناً. حيث يرتبط المرء بمساحة أعظم عبر اللغة والثقافة، وليس بالقومية أو العرق.