ياسمين عباس/
لاشك في أن التطور التكنلوجي الهائل -في مختلف مجالات العلوم- فرض نمطاً جديداً للحياة، استحدث وظائفَ وألغى أخرى، وجعل العالم بحق قرية صغيرة، إذ صار بإمكانك أن تتحدث إلى أناس من ثقافات مختلفة متى شئت، فقد أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الجديدة التواصل بين الناس، وبات من السهل التعرف على ثقافات وتقاليد وحياة الآخرين، كل هذا انعكس –بالتالي- على الكثير من عادات وثقافات وتقاليد الشعوب، ومن بينها شعوبنا.
لم يعد الأدباء ينظمون قصائدهم ويسردون الروايات عن شوق الحبيب إلى اللقاء والتحدث والتعبير عما يختلج في صدورهم، أتاحت التطبيقات الجديدة للأحبة اللقاء وتبادل الأحاديث، وما عاد أي منهم يشكو من الشوق الذي نظم فيه شعراء ما قبل عصر التكنولوجيا قصائدَ ملأت الكتب.
إيقاع الحياة
لاشك في أن التكنلوجيا، مثلما فرضت نفسها على إيقاع الحياة، فإنها أيضاً فرضت نفسها على الأفكار والسلوكيات، فمحت قيماً وصنعت أخرى بديلة، وأن هذه التغيرات الثقافية طرأت على الأفراد والمجتمعات، وتأثر بها المتلقون والأدباء. كما خلق التقارب، الذي أحدثته التكنولوجيا، مفاهيم جديدة طرأت على تفكير الأفراد والمجتمعات وأعاد تشكيل القيم الثقافية والإنسانية على وفق الأنماط الحياتية الجديدة.
تقلص دور الهويات
ربما تكون الهويات والانتماءات من أكبر ضحايا النمط الجديد للحياة في عصر التكنولوجيا، فالتواصل بين الشعوب وسهولة الانتقال بين البشر من بقعة جغرافية إلى أخرى أدى الى شحوب الهوية أمام سيل تكنولوجي جارف ما عاد يعير للهويات أدنى حسابات، فالقيم السائدة في المجتمعات المنغلقة على نمط سلوكي معين سرعان ما تتحطم أمام المناخات التي تخلقها التكنلوجيا، كما أن عدم قدرة الناس على تكييف ثقافتهم مع الثقافة المؤطرة بنتاج التكنولوجيا الحديثة، خلق لدى البعض نوعاً من الازدواجية بين تقاليد ما قبل عصر الاتصالات وما بعده.
واقع جديد
لم يعد بإمكان الأدباء خلق عوالم بعيدة عن عالم تغلغلَ في كل مفاصل حياتهم، وبطريقة غير مسبوقة. وإذا كانت التكنولوجيا قد فرضت نفسها على وسائل الإعلام، فإن الثقافة لا يمكنها أن تظل في مأمن وتحمي نفسها بدرع، وتعيش في عزلة عن بيئة جديدة خلقتها التكنولوجيا، لقد بدأنا نرى نتاجات أدبية تعالج الصراعات ما بين نمطي ثقافة ما قبل التكنولوجيا وما بعدها، ولم تعد المخاوف من ضياع الإرث الثقافي والهوية الثقافية تكفي للحذر من التعاطي مع واقع جديد، فالأطفال والصبيان يعيشون الحياة الرقمية وينتمون إلى عالمها ولا يعانون من أزمة التحول من نمط حياة إلى نمط حياة أخرى، وهؤلاء بالتالي هم الذين يقررون نمط حياتهم وسلوكياتهم وثقافتهم، التي لا يمكن أن يتجاهلها المنتج الأدبي، وستغدو قصائد الاشتياق واللوعة من ابتعاد الحبيب مثار سخريتهم، وبالتالي فإن علينا أن نتوقع أدباً جديداً محكوماً بسياقات حضارية فرضها التقدم العلمي. لهذا ما عاد بالإمكان الفصل بين العلوم والثقافة وما يثمر عنهما من نتاجات في مختلف مجالاتها كالقصة والرواية والشعر، لا بل حتى الفنون الأخرى، كالتشكيل والسينما، اللذين تأثرا بشكل أعمق وأكبر من النتاج الأدبي.
رفض وتمرد
ثمة رفض يتمظهر -بشكل وآخر- للقبول بالقواعد الجديدة التي فرضتها التكنولوجيا على الحياة، وتقييد تأثيرها على نمط التفكير الثقافي، لكن تلك المحاولات لن يكتب لها النجاح لأنها تسير عكس التيار، فبحسب التعبير الذي يستخدمه الرافضون لثقافة عالم التكنولوجيا وعدم قدرتهم على استيعابه والتعامل معه، فإن تلك المعارضة جعلتهم في عزلة، وباتوا ينتمون إلى مجتمع لاوجود له إلا في خيالهم.
إن هذا الرفض للواقع والتمسك بتلك القيم، التي طحنتها عجلة التكنولوجيا، أنتج نوعاً من الأدب لا يقدم سوى ذاكرة تحن إلى ذلك العالم، وهذا بالتالي يخلق نوعاً من الانفصال بين الأديب وعالمه الجديد، وينشئ ازدواجية لن تستمر مع الجيل الجديد، الذي لا ينتمي لذلك العالم الذي يحن إليه الأدباء ويرثون ثقافته التي توارثوها جيلاً بعد جيل، وهم يشاهدون كيف تمكنت التكنولوجيا من تغيير طبيعة تفكير الناس وذائقتهم. ربما يعتقد العديد من الأدباء أن ما يحصل أمامهم هو هزيمة حقيقة لتاريخ طويل وعظيم من المنجزات التي تغنت بها الأجيال.
جيل الماضي الجميل
يتمسك الأدباء بذكرياتهم ويتفحصون تأثير نتاجهم أمام أفكار جيل التكنولوجيا، جيلٌ لا يعير هذا الكم الهائل من النتاجات الأدبية الاهتمام. من جهتم لا يستوعب الأدباء التخلي عن تراثهم الذي يختفي تدريجياً من ذاكرة الجيل الجديد والأجيال اللاحقة، التي لا تنتمي إلى هذه الثقافة ولا تعيرها أهمية وهي تعيش عصر التكنولوجيا، وتؤمن بمنظومة القيم التي تعيشها مجتمعاتهم وتؤثر فيهم، ويتفاعلون مع قيمها وسلوكياتها ومع ما تنتجه من أدب جديد.
عالم جديد وثقافة جديدة
إن التكنولوجيا التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، ستنتج -بلا شك- ثقافة تلائم طبيعة الحياة الجديدة للناس، لذا فإن الحراك الفكري لن يخرج عن الواقع الذي فرضته التكنولوجيا، فالثقافة الرقمية لم تأت لخدمة نمط ثقافي لا ينتمي إلى عصرها، بل جاءت تحمل معها قيمها وثقافتها،
وبالتالي نتاجها المتوائم مع التقدم العلمي، وأي نوع من التصادم مع هذه الثقافة لن يفلح، فالإنسان، مثقفاً كان أم لا، مرغمٌ على التعامل مع بيئته الجديدة التي تلعب فيها التكنولوجيا الإلكترونية والرقمية الدور الأساس في حياة الناس وطبيعة تفكيرهم، وتحكم حتى مسارات خلافاتهم وطريقة حلها، بالتالي فإن أية ثقافة لا تنتمي إلى هذه الحياة ستكون ثقافة منفصلة، لا تؤدي هدفها.
وفي كل الأحوال، فإن العلم إذا استطاع أن يصنع عالماً جديداً وثقافة جديدة، فإن الثقافة الوليدة تظل دوماً قادرة على التمسك بقيمها وسلوكياتها الإنسانية، بل وحتى روحيتها، شريطة عدم خروجها عن مسار العصر الرقمي.