عدي العبادي/
مع هيمنة قصيدة النثر الحداثوية على الذائقة العامة، لسهولة كتاباتها، وكونها لا تخضع لقانون الوزن والقافية الذي وضعه الفارابي وأنها تتمتع بروحية العصر، ولاسيما أن هيمنتها تزامنت مع اتهامات لشعراء العمود بالكلاسيكية ووحدة الفكرة، أي القولبة والخضوع لقوانين العروضية لعقود طوال من الزمن، لكن نخبة من شعراء العمود واجهت هذه الاتهامات وتصدت لمهمة كسر الحاجز النفسي الذي رسخ في أذهان متذوقي الشعر، ليعيدوا لكتابة القصيدة العمودية الحديثة مكانتها التاريخية، ما شكل تهديداً حقيقياً لقصيدة النثر.
ومن أهم شعراء العمود، ومن أبرز المتصدين لهذه المهمة الشاعر الدكتور عارف الساعدي، وهو شاعر عرف عربياً بكتابة الشعر العمودي، ونال من خلال مشاركاته بهذا الشعر جوائز عدة، لعل من بينها الصدى (المبدعون) للشعر في دبي، وجائزة الأمير عبد الله الفيصل للشعر العربي في السعودية، فضلاً عن مشاركات عربية ومحلية كثيرة، فهو كاتب جاد منخرط في مشروع أدبي يعيد الى الشعر العربي ألق الصورة الشعرية وفخامة المعنى والإحساس العالي بالكلمة.
محاولة مع الساعدي:
ناديتُه وخيوط الصوت ترتفعُ
هل في السفينة يامولاي متّسعُ
ناديتُهم كلَّهم هل في سفينتكم
كأنَّهم سمعوا صوتي وما سمعوا
ورحتُ أسأله ياشيخ قسمة من
نجوتَ وحدك والباقون قد وقعوا
وهل سترتاح هل في العمر طعم ندىً
وأنت وحدك والصحراء تجتمعُ
حين نحاول استنطاق هذه القطعة الشعرية نجد أنفسنا أمام سؤال مهم عن العمر والنجاة بالسفينة التي كانت رمزاً للحياة، ومع أن الساعدي اشتغل هنا على الموروث الديني، لكنه وظف فكرة حديثة من خلال ربطه بالحياة العامة، فسفينة سيدنا نوح التي نجا من ركبها وخسر من تخلف عنها، إنما هي دلالة فكرية على لحظة الخيار في تحديد بوصلة التوجه عندما يوضع الإنسان أمام مفترق طريقين متناقضين.
لوحتي وطني
وكان في الطين حلْمٌ، لو منحت له
وقتاً نديّاً لكانت لوحتي شجرا
لكنه اختلطت ألوانُنا فإذا
هذا الرماديُّ ليلاً يصبغ الفقرا
لا لونَ في اللون، كانت لوحتي وطني
وكنتُ أمتدُّ في أحلامه حذرا
نهران طفلان، مرَّ اللون فوقهما
فرفرفا واستراحا، بعدما كبُرا
وسافرا… ما استطعتُ الآن مَسْكَ يدي
فإذْ بنا نعبر اللوحات والأطُرا
يمكن لأي ناقد هنا أن يستحضر ما ذهب اليه (مليان كرنسو) الى أن الشاعر يجعلك تشعر بالأشياء كأنك تعرفها أول مرة، فهو يخلق إحساساً جميلاً تجاهها، ويصورها لنا وفق رؤيته، فلا يكفي أن تملك المفردة من دون أن تكون صائغاً ماهراً للكلمات، كما يفعل الساعدي هنا، حيث تحضر الموهبة وتحضر القدرة على الإدهاش.
لقد كان الإغريق يعتقدون أن أرواح الآلهة تدخل الى أجساد الشعراء وتنطق الشعر، فهذا الكلام لا يمكن أن يقوله الإنسان العادي، فيما اعتقد العرب أن الشعراء يخالطون الجن ويعلمونهم الشعر، ولهذا ظهر ما يعرف بـ (شيطان الشعر) حتى قالوا إن لكل شاعر شيطان يعلمه الشعر.
وهنا يلمع شيطان الساعدي، فيقودنا معه الى هذا الوهم ويرسم لنا ما يشاء من لوحات خيالية، فياله من شيطان ساحر وحاذق يتلاعب بعواطفنا حد البكاء:
رسمتُ غيماً ولم أرسم له مطرا
لكنّه كسرَ اللوحاتِ وانهمرا
وفزّز الماء طيناً كان مختبئاً
في لوحتي ناطراً في صمته المطرا
وكان في الطين حلمٌ لو منحتُ له
وقتاً نديّاً لكانت لوحتي شجرا
لكنّه اختلطت ألواننا فإذا
هذا الرماديّ ليلاً يصبغ الفقرا
هذه القصيدة تمنحك فرصة للتجول في عوالم قصائد عارف الساعدي، حيث يمتزج الجمال بالقدرة العالية على ترجمة الحياة شعراً، معتمداً على قوة تصوره وتلاعبه بالأشياء، وقد لاحظنا كيف أخرج الغيم المرسوم من لوحته الى الواقع، إنه يشتغل على ثقافة الأماكن التي اشتغل عليها كل من فوكو وباشلار، وهي إخراج الأشياء من فضاءاتها وبث الروح فيها.
شفرة الساعدي:
نهران طفلان فرّا من عباءتها
فرفرفا واستراحا بعدها كبرا
وسافرا ما استطعتُ الآن مسك يدي
فإذ بنا نعبر اللوحات والأطرا
مسافرون وإذ لا شيء يوقفنا
وخلفنا أنهرٌ مخبولة وقرى
يا لوحة القلق الصوفيّ من رسم
المعنى وحمّل أشجارَ الصِبا حجرا
عند الاشتباك مع نص الساعدي لفك شفرته، نلمس جملة من التعقيدات يصعب فيها فرز الخيال الشعري وقوة التعبير الصوري، وتلك الميزتان ترتقيان بالنص
وتوظفان الصوفية وقلقها، بلمسات شعرية تجعل من العسير أن نحيل الساعدي إلا الى مدرسة الساعدي نفسه.
إن ما يميز الشاعر عن غيره هو خزينه المعرفي وموهبته التي تجعل القارئ يسافر على أجنحة وهم يرسمها فنان متمكن في كل الحالات على الإمساك باللحظة الشعرية وقادر دائماً على استغلالها:
ومن تلكأ في الألوان وارتبكت
سماؤه فأراق اللونَ واختصرا
إذ ليس من قمرٍ في الرسم منشتلٍ
فكيف أرضى برسمٍ ناقصٍ قمرا
حزني إذا أكمل الرسامُ لوحته
أعاف بيتاً له أم ظلّ منكسرا
ينسى ويرسم والدنيا تدور به
وظلّ يرسم عمراً يأكل العُمُرا
لا بيتَ تسكنه ألوانُ لوحتهِ
ولا مراسيَ حتّى يطفئ السفرا
في كل محاوراته الشعرية، يترك لنا الساعدي مساحة لاكتشاف المعاني ومتعة اكتشاف الجمال، وبقدر الحرية التي رسم بها لوحته الشعرية، ترك للقارئ مثلها حرية
التفكير والبحث عن دلالات الصورة التي يمكن أن نتخيلها من دون أن يساوم على بنية النص ووحدته لصالح إرضاء المتلقي.