آمنة عبد النبي/
ولدت بين شناشيل مدينة الكاظمية في محلة (عكد السادة)، الذي تتميز بيوتاته التراثية بالبساطة، وتحكي للمتجول بين درابينها المشيدة من أحجارعتيقة قصة عن عظمة الحضارة العراقية في مدينة مقدسة،ُ تشعرك بهيبتها وإنتمائها الى هوية التعايش الانساني بكل عناوينه.
تحمل التحدي، وترى في القصائد بنادق من نوع أبيض، محاربة لم تمسك القلم إلا من أجل قضية، أنها الشاعرة منى الصراف.
حفيدة بغداد
العائلة حينما تترصن علاقاتها بهيبة انسانية عميقة فستتحول الى وطنٍ صغير تكبر معه كلّ الحواس والانتماءات المجردة من الطائفية والمذهبية والشتات العنصري، تقول تلك الشاعرة المتعلقة بأذيال طفولتها، حتى وإن ركبت قطار المسافات الزمنية وكبرت على عجل، مازلت أذكر أمي وهي شابة جميلة مشرقة كما هن بنات بغداد الأصيلات، وكيف جعلت مني امرأة ناضجة وأنا طفلة صغيرة كان اهتمامها بي أكثر من اخوتي الذكور، ودائما ما أتذكر مثلها المغروس كخنجر بقلب التقاليد البالية “أن البنت مرآة العائلة” نعم أنا أتذكر زهورها المنثورة لحراستي والتي لاتخلو من الشوك حرصا على الطفلة المقدسة، امّا والدي فقد كان عظيماً بعطائه وأبوته، بل كان ينبوع الحنان داخل بيتنا، كان يضع قبلة دائمية على كفي ويقول لي “سيدتي” قبلته تلك هي التي كانت تطير بي الى السماء لأنّه ظل يطبعها حتى آخر لحظة بحياته بحيث رسمها مثل وشم على يدي ثم غادر الدنيا، كان وسيماً ومحباً للآخرين كما هم يحبونه كثيرا، ولقبه الصراف كان منسوباً لمهنة جدي بتصريف العملة، أما المدامغة الموسوية فهو لقب بيوتاتنا قديمة الأصل.
منارتان وتعايش
طالما أن تلك المدينة حضرية ولاتطغى عليها السمة العشائرية المتعصبة، فإن العلاقة مع الجيران بالقرب تلخصها مساكن القلوب المجازية لا الأبواب المعدنية والخشبية، حتى الذكريات المخلوقة هناك كي تتباعد مع الأيام وتهفت، كانت حاضرة بذاكرتها حينما انتقلت وهي الطفلة المسافرة بين الضفتين التوأمتين الى الأعظمية وكتبت قصيدة “عصفورة شجن” حينما عبرت من الجسر الى الجسر، فظلّ قلبها يشاطر عينيها النظر بحنان الى المنارتين المذهبتين، وهما تتصافحان بكلِ ود وتعايش، الإمام موسى الكاظم والإمام ابو حنيفة النعمان، وكيف وهبت لهما السماء تلك المصادفة الروحية الآمنة، بحيث اكملت بالاعظمية رحلة طويلة ممزوجة بطفولة وشباب وبذر مستمر لمواسم الأمنيات.
رائحة الخبز
حين تُحدثك عن رائحة الخبز التي لاتفارق ذاكرتها، تشعر أنك تتذوق بحواف كلماتها ملوحة أهل العراق وطيبة ناسه، تقصها دائماً وهي بعيدة عن النشأة الأولى والمدينة الأم، أنّها ذكريات الكوفة وبيت العائلة الثانية “عمتها” الذي كان يحتضنها في كل عطلة صيفية، فلا شيء يأسر روح الانسان العراقي بالحنين أكثر من رائحة الخبز والتنور وسواقي الأرض الشابة والمتوسطة لذلك البيت الكبير ببابيه، حيث أحدهما كان يطل على المحلة والجيران وأطفال الحارة، والباب الآخر كان يأخذنا لعالم ساحر حيث البساتين الغناء وينابيع الماء الرقراقة، كنت أشعر كأني (آليس في مدينة العجائب) حيث تدخل من بابين بعالمين مختلفين، مروراً بشناشيل أهلي والنوافذ والحوش والقصب، ووصولاً الى العالم الخارجي حيث الشاي والكعك وساعات العصر التي كنا نقضيها هناك حيث ملاذنا الرائع.
قلبٌ يتعرّق
المرأة هي الجدلية التي لاتنتهي ومن الصعب أن تأخذ لفظة امرأة بمجتمعنا الشرقي معناها لأنّها بصراحة مُتهمة بمسميات بعيدة عن بعدها الانساني كـ: العورة، الشرف، السلعة، النهوة، الفصل، الجهل، الأمية، القهر، الذل، الخذلان .. حتى لو أصبحت عضو برلمان فالكوتا هنا هي اللعبة الأساسية ودائما ماكانت تحت مظلة ساندة وبعيدة عن أي مركز لقرار. وفي مجموعتي الشعرية “قلب يتعرق” ترجمت المفردة وطوعتها بذخيرة تحدي كل أغلال العبودية والتذيّل، أجد أنّ القصائد التي تحمل التحدي في هذه الحياة كثيرة، فالقصائد بنادق من نوع أبيض، ودائما ماكنت محاربة ولم أمسك القلم إلا من أجل قضية، لأنني بصراحة لست بشاعرة غزل مجتمع كسيح، ومازلت مصرّة على أن حروفي هي التي تكتبني وهي التي تصر على أن امسك القلم وأحرق كل أشجاني بالورق، أنا أعرف تماما أن هذا الورق سيتعفن يوما كما سأتعفن بعده، لذلك قلتها مرة:أن الأمية والجهل أصبحا ترفاً بعيد المنال منيّ، مع أنّ الحرية أصبحت لنا كسراب نحلم به لحدودِ حرية قبر نتمناه كما كنّا نريد في الدنيا ونحلم عند مغادرتها، لذلك كتبت قصيدة بعنوان “حرية قبر”
أبنوا ليّ قبراً بأرضٍ
ليس بها رمال
ونساء كالعبيد!
اسمع خطى أقدامهن
فوق ضريحي
يبكين الحرية
سيكون قبري كئيبا، رهيبا
أبنوا لي قبرا بحديقة
أو فوق جبال
حيث تنبت هناك
شقائق النعمان