رؤيا الغالب /
في بلدة ريفية هادئة بعيدة عن ضجيج العاصمة لندن، تغمرها زخات المطر وتعلوها الغيوم الرمادية وتحيط بها الأشجار الخضراء على مدار السنة، ترحب مدينة “ستراتفورد – أبون – افون” بالزائرين وكـأنها تقول أهلاً بكم في مدينة شكسبير حيث ولد الكاتب المسرحي والشاعر الانكليزي العظيم وليم شكسبير في القرن السادس عشر.
كانت رحلة “الشبكة” الى هذه المدينة الخلابة، التي تبعد نحو ساعتين عن العاصمة لندن وتقع جنوب مقاطعة وركشير في انكلترا، رحلة ممتعة وغنية، فهي مدينة ريفية جميلة وتعد مقصداً سياحياً بسبب مكانتها باعتبارها مسقط رأس الأديب الإنكليزي المعروف وليم شكسبير حيث ولد ودفن فيها.
تستقبل المدينة نحو 4 ملايين سائح سنوياً من جميع أنحاء العالم، فتاريخ المدينة يحكي عقوداً قبل ولادة شكسبير حيث فتح أول سوق في المدينة بعد الإعلان عن ميثاق ملكي من الملك ريتشارد عام 1198 يسمح للسكان بإقامة الأسواق. وأصبح السوق المحلي مركزاً للدباغة والمنتوجات المحلية التي لاتزال تبيع المنتجات المصنعة محلياً والسلع الجلدية، ويبلغ عدد سكان المدينة نحو 25000 نسمة.
كتاب قديم
وأنت تتجول في مدينة ستراتفورد تشعر كأنك تتصفح كتاباً قديماً مليئاً بالصور والحكايات في عهد الملكة اليزابيث الأولى، فالبيوت لم تتغير ويزيدها جمالاً انتشار الأزهار حولها. وبيت شكسبير لم يتغير أيضاً فهو يحوي كل أثاثه وأغراضه القديمة مرتّبة في مكانها كما كانت.
يحدثنا المرشد السياحي الذي رافقنا، وهو يرتدي الزي التقليدي، أن وليم شكسبير ولد في هذا البيت عام 1564 وتوفي فيه عام 1616 وتزوج زوجته آنا هاثاوي فيه عام 1582 وهو في الثامنة عشرة من عمره وهي في الـ26، فقد كانت تكبره بثمانية أعوام، وكانت من عائلة ثرية، وقد رزق منها بثلاثة أبناء. ويقع هذا الكوخ الصغير في شارع هينلي، وهو شارع مزدحم بالمشاة فقط وتكثر فيه البوتيكات والمقاهي. يضم المنزل مطبخاً وغرفة للاستقبال فضلاً عن غرفة شكسبير وسريره الذي كان يتباهى به حيث وضعه قبالة النافذة ليراه سكان البلدة، ما يدل على أنه شخص ثري. وفي ذلك الزمان، يقول مارك -مرشدنا السياحي-، إن الذكور كانت لهم أسرَّة خاصة ينامون عليها بينما الإناث كنّ ينمن على فرش موضوعة على الأرض، ولم تكن هناك مدفأة لغرف الإناث لأنهن أناث! وهكذا كانت الأمور في عصر شكسبير.
مسرح في الحديقة
وفي حديقة البيت كان هناك ممثلون يقدمون مقاطع من مسرحيات شكسبير حسب طلبات السيّاح، وكان معظمها من مسرحيته الشهيرة تراجيديا الحب (روميو وجوليت) فضلاً عن وجود مكتبة شكسبير التي خصصت لأعماله ، وأيضاً نسخ أصلية لمؤلفاته ولوحات لزوجته وابنته.
يعدّ شكسبير الشاعر الوطني لإنكلترا، وقد سبر في مسرحياته أغوار النفس البشرية وحلّلها في بناء متناسق فجعلها كالسيمفونيات الشعرية، فضلاً عن أنه أشهر كاتب مسرحي انكليزي تباع أعماله على مر الزمن. وتقدر مبيعات كتبه بـ 4 مليارات نسخة وأغلب أعماله ألّفها بين عامي 1590-1612.
وترجمت مسرحياته الى أكثر من 80 لغة ومن أشهرها: هاملت ومكبث والملك لير وريتشارد الثالث وتاجر البندقية وانطونيو وكيلوباترا وحكاية الشتاء وعطيل ويوليوس قيصر وفينوس وأدينوس وأوثيلو وكوميديا الأخطاء وروميو وجوليت. وكان شكسبير يؤكد في أعماله أن الدنيا مسرح كبير وأن كل الرجال والنساء ممثلون على هذا المسرح. ويقول إن قلم الكاتب مقدس مثل دم الشهيد. وبيعت إحدى مؤلفاته في مزاد عام 2006 بنحو 2.8 مليون جنيه استرليني.
برج الساعة
ومن المعالم السياحية في هذه المدينة الجميلة برج الساعة ومسرح شكسبير الملكي حيث تملكه شركة شكسبير الملكية وهو متخصص في عرض أعمال الكاتب، فضلاً عن مسرح البجعة الذي تملكه شركة شكسبير وهو يقع بجانب مسرح شكسبير الملكي، ومؤسسة وليم شكسبير وهي مؤسسة خيرية تعليمية مستقلة تعد دار محفوظات لدراسة أعمال شكسبير ومعهده وهو تابع لجامعة برمنغهام ومدرسة الملك إدوارد السادس، وهي المدرسة التي يعتقد أن شكسبير درس فيها، إضافة الى متحف خاص يدعى ببيت ناش ومسرح كورتيارد وكنيسة الثالوث المقدس حيث عُمّد جثمان شكسبير ودفن فيها.
شكسبير فأل خير
خلال تجوالنا في البلدة الريفية الجميلة رافقتنا السيدة سارة هاملتون، وهي سيدة إنكليزية من سكان المدينة، حدثتنا قائلة: نعتبر شكسبير فأل خير على هذه البلدة برغم مرور أكثر من 400 عام على وفاته لأن البلدة أصبحت سياحية من الدرجة الأولى بسبب وجود بيت شكسبير فيها ومسرحه وقصصه ومسرحياته وكل شيء تركه هنا فضلاً عن الكنيسة التي دفن فيها، مؤكدة أن السكان الإنكليز في القرن السادس عشر كانوا يُخرجون رفات الموتى من القبور ويحرقونها ليكون هنالك متسع للآخرين مشيرة الى أن شكسبير رفض أن يحرق جثمانه بعد موته وبقية أفراد أسرته فاشترى هذا القسم من الكنيسة ليكون مكاناً لأضرحتهم.
عراقيون في المدينة
ومن اللافت أننا صادفنا في جولتنا عائلة عراقية تتجول بين ذكريات شكسبير ومسرحياته وكتبه ومسرحه، وكان معظم أفراد العائلة من الأطفال، سألناهم: لم أنتم هنا؟ فقال سجاد، وهو في العاشرة من عمره: نحن هنا من أجل شكسبير، فقد درسنا حياته ومؤلفاته في المدرسة، ولأنه كاتب انكليزي مشهور تدرس مؤلفاته في المدارس طلبنا من أبي أن نزور مدينته فدفعنا الفضول للمجيء الى هنا، وكانت رحلة جميلة حيث نجلس على نهر أفون ونشاهد البجع البيضاء وهي تسبح بحريّة، كما شاهدنا مسرحيات شكسبير في مسرحه الشخصي وجلسنا في بيته وانتظرنا أن نراه، لكنه لم يأت وسألنا أبي أن يأخذنا الى مزرعة الفراشات القريبة من هنا والتي تعد أكبر مزرعة في أوروبا وسنزور مدينة شكسبير العام المقبل.