الشتاء ورحلة التاريخ.. بين الخوف واللجوء

علي لفتة سعيد

الشتاء له حكايات كثيرة، تختلف من شعبٍ إلى آخر، ومن بيئةٍ إلى أخرى. ومن منطقةٍ جبليةٍ عن أخرى صحراوية وثالثة بحرية، ورابعة بين هذا وذاك. لكن الغالب الأعم يكون حب الشتاء أكثر من الصيف مع اختلاف النسب، وما يرافقه من تقاليد وأعراف وثقافات، وحتى الواقع السياسي.
في بعض الشتاء هدوء وسكينة، وانزواء وحضور العائلة، وهو كما قيل “الشتاء أبو الفقراء”، كونهم يرتدون ما لديهم من ملابس تحت الملابس الخارجية.
لكن الشتاء في الأساطير، كان يُعد مصدر شؤمٍ بسبب حصول الفيضانات والزوابع والرعود التي تخيفهم وتسبب الانهيارات لمساكنهم وأعمالهم.
شتاء الأساطير
لم تذكر ملحمة جلجامش الشتاء بالتسمية، لكنّها تضمنت إشارات عامة للطبيعة والطقس. وقد وردت عبر نصوص لها تأويل الشتاء عبر تصوير الطبيعة القاسية أو الظروف المناخية التي تعكس تحديات جلجامش في رحلاته. وخاصة في رحلته بحثًا عن الخلود، إذ يعبر عن ظروف قاسية تصور البرودة. وقد وردت في رحلته إلى غابة الأرز: “وكان الريح يهبّ في الظهيرة، وكان الزمان مظلمًا، وعبرنا الجبال المظلمة، وأقبلت الرياح عاتية.”
وكذلك في الرحلة إلى جبل الموت، عندما يلتقي جلجامش مع الطوفان الذي يخص الإله الحكمة، حيث يكون الأمر مرتبطًا بمواجهة عوامل الطبيعة القاسية التي قد تشبه البرد أو الشتاء كرمز للمعاناة والموت: “رحلة جلجامش لا تعرف النهاية، وعيناه تحملان صورًا من الموت، وكل خطوة لهما مليئة بمواجهة عاصفة البرودة، لا حرارة تحيطه، ولا شمس تعطيه الأمل، في هذا الجبل الذي لا يعدو سوى مصيرٍ مظلم لا يُعرف متى ينتهي.”وأيضًا ما ورد في قصة الطوفان التي يرويها أوتنابشتم لجلجامش، حين قال: “كان هناك في الزمان البعيد، عندما كان الآلهة قد قرروا أن يدمروا البشرية بالطوفان. وكان إله الحكمة، إنليل، هو من أصدر هذا القرار. ولكنني، بأمر من الإله إيا، بنيت السفينة ونجوت.”
ويقدم نصيحة لجلجامش: “لا تحاول أن تجد الخلود، فإنه لا يخص البشر. فالإنسان في نهاية المطاف سيعيش ويموت. يجب عليك أن تعيش حياتك بالطريقة التي تتيح لك الاستمتاع باللحظة، فالموت هو مصير الجميع.” يمكن قراءة العديد من المصادر التي تعنى بالشتاء كرمز أو حالة واقعية أو إشارة للمعاناة.
فلاح الآلهة
يعتقد البعض أن العراقيين يميلون للشتاء أكثر من الصيف، وهذا متصل بالتاريخ كما يقول الباحث في الشأن الآثاري عامر عبد الرزاق، وبحسب مصدره (مقدمة في أدب العراق القديم) لطه باقر، أن العراقيين جسّدوا، ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد حبهم لفصل الشتاء. وجاء ذلك في الأسطورة السومرية “إيمش واينتن”، إذ تبدأ هذه الأسطورة عندما يقرر الإله إنليل أن يؤسس الزراعة في بلاد الرافدين. عندها خلق الأخوين إيمش، الذي يمثل فصل الصيف، واينتن الذي يمثل فصل الشتاء. وقد حدد أعمال ومسؤوليات كل منهما. فكانت وظائف الشتاء أن يسبب ولادة العجول والأغنام والماعز، ويُكثر من إنتاج الألبان والسمن، ويجلب الخضرة في الحقول، ويُنمي الغلال ويكثرها، ويمكن طيور السماء من بناء أعشاشها في الأرض الواسعة. أما واجبات الصيف، كما يقول عبد الرزاق، فكانت في أن يملأ المزارع بالغلال ويُكدس المخازن والبيادر، ويكون فصل البناء والإعمار وتشييد البيوت والمعابد وزرائب الأغنام. وقد أدرك كل من الأخوين واجباتهما التي خصصها الإله إنليل.
ويمضي بقوله إنه قرّر ذات مرّة أن يقدّم كلّ من الأخوين هدايا وعطايا إلى الإله إنليل، فتوجها إلى مدينة نيبور، لكن الغيرة والشعور بالحسد قد دبت بين الأخوين، إذ تجنب إيمش (الصيف) أخاه أينتن (الشتاء) كأنه عدوه، وبادله أينتن العداء وتفاخر بقدراته قائلاً: “عندما يرتدي الملك أبي-سين أبهى ملابسه الملكية الاحتفالية أثناء تأديته الشعائر للآلهة، ستُعزف على أوتار القيثارة في بيت الحياة معبد الإله إنليل، وقتها سأكون أنا الشتاء الذي يُهيئ الزبد والدهن لهذه الاحتفالات.” فيرد عليه إيمش (الصيف):
“يا أخي الشتاء، في زمنك تتجمع الغيوم الداكنة وتصطك أسنان الناس من البرد وهم في داخل بيوتهم، ولا يجرؤ أحد على الخروج من البيت حتى في منتصف النهار.”
وأخيرًا، يعرض كل من الأخوين المتخاصمين منافعه ومزاياه أمام الإله إنليل ليحتكم بينهما ويصدر حكمه. فقال إنليل: “إن الشتاء هو فلاح الآلهة، فهو يُسيطر على المياه التي تجلب الحياة إلى الأرض ويُكدس الغلال، فكيف يا بني الصيف، يا راعي الآلهة، تقارن نفسك بأخيك الشتاء؟” معتبراً أن هذه الأسطورة تؤكد أهمية فصل الشتاء في بلاد الرافدين، رغم قسوة برودته، لكنه كان الأفضل لأنه يمنح وفرة هائلة من النباتات والحيوانات.
لماذا يفضل الشتاء؟
إن للشتاء تعدّدات في التوصيفات بحسب الأمكنة والواقع الجغرافي وحتى السياسي. في المجتمعات الزراعية القديمة، كان الشتاء يعد مصدر قلقٍ وتحديات بسبب قلة الموارد وقسوة الطقس، وكان يشكل تهديدًا للحياة، خاصة في المناطق التي تشهد صقيعًا شديدًا. وكان البرد القارس والمجاعات يشكلان تهديدًا كبيرًا للبشر.
أما في الأساطير القديمة، فقد ارتبط الشتاء بالموت أو الغياب أو الحزن. ففي الأسطورة الإغريقية الخاصة بـ (ديميتر) وابنتها (بيرسيفوني)، كان الشتاء يرتبط بغياب بيرسيفوني عن الأرض، ما يتسبب في موت الأرض وركودها. وفي الأساطير الإسكندنافية، كان الشتاء القاسي علامة على بداية نهاية العالم، حيث ارتبط بالعذاب والموت قبل أن يعقبه التجدد أو القيامة.
أما في العصر الحديث، فقد اختلفت الصورة بسبب تطوّر الزراعة والتكنولوجيا. أصبح الشتاء أقل تحديًا بالنسبة للعديد من الشعوب، بل أصبح فصلًا يتيح الفرص للاستمتاع بالأنشطة الشتوية مثل مهرجانات الألعاب والتزلج على الجليد. في العراق، كان التحلق حول المدفأة أو “كتاون” الشاي والجمر يعد لمة العائلة ومصدرًا للحكايات الشعبية التي يُلقيها الأكبر سنًا. كما كان مصدرًا للراحة والهروب من مشكلات الحياة، فضلاً عن ساعاته الطويلة التي يستريح فيها الجسد من تعب العمل.