حوار أجراه: علي السومري /
هو شاعر ومثقف عضوي وفق توصيف (غرامشي)، لم تمنعه انشغالاته الثقافية والفنية من مواصلة نشاطه المدني والاحتجاجي، والاندكاك بهموم الوطن وأهله منذ سقوط الديكتاتورية عام 2003 وحتى يومنا هذا، برز اسمه في المشهد الثقافي أواخر تسعينيات القرن الماضي. حصل على شهادة الماجستير في الأدب الفلسفي – قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة الكوفة عام ٢٠١٥، وينشغل اليوم بأطروحة الدكتوراه.
أصدر في الشعر مجموعتين شعريتين، (مرةٌ واحدة) عن وزارة الثقافة الإماراتية، و(أن تقلب الفكرة) عن دار الرافدين في بيروت، إضافة لكتابين آخرين، الأول عن أدب الرحلات (العراق 360 درجة) بمشاركة الكاتب عبد المحسن صالح، عن مؤسسةMICT ومؤسسة فريدريش إيبرت الألمانيتين في برلين، أما كتابه الثاني فكان بعنوان (الحضور الفلسفي في الشعر العراقي المعاصر – شعر سركون بولص أنموذجاً)، وهو رسالته للماجستير.
جوائز وبرامج
نال عدة جوائز عربية ودولية، بينها جائزة الشارقة للإبداع العربي في الشعر العام 2005، والجائزة الذهبية لأفضل سيناريو – مهرجان وهران السينمائي الدولي بالجزائر- عن الفيلم العراقي (غير صالح للعرض) العام 2007، وجائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري في الكويت العام 2010، وجائزة (العين المفتوحة) للتصوير الفوتوغرافي العام 2011 في ألمانيا.
عمل في الأعوام (1999- 2003) خبيراً لغوياً في مجلتي (آفاق عربية) و(الطليعة الأدبية) اللتين تصدرهما وزارة الثقافة العراقية.
وفي العام 2005 عمل كصحفي جوّال في مجال الأدب والثقافة والفنون، في كل من تركيا، سوريا، الأردن، مصر، لبنان، للبرنامج الإذاعي “العراق – ٣٦٠ درجة”، الذي كان يبث في العراق وعدد من البلدان المجاورة، لصالح مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية. انتخب رئيساً لاتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف لدورتين متتاليتين (2010 – 2016). عُين تدريسيّا في الأدب الفلسفي والفلسفة الإسلامية/ في جامعة الكوفة (٢٠١٥- ٢٠١٧)، لينتقل بعدها كتدريسي في الثقافة العربية المعاصرة بجامعة شنغهاي للدراسات الدوليّة في الصين (٢٠١٧-٢٠١٩)، ويعمل اليوم تدريسياً في الفلسفة الحديثة بجامعة الكوفة، شارك وأدار عدة مؤتمرات عراقية ودولية داخل العراق وخارجه، إنه الشاعر والكاتب والسينمائي والأكاديمي فارس حرّام، الذي كان لنا معه هذا الحوار لمجلة (الشبكة)، حوار ابتدأناه بسؤال:
فخ تعريف ما لا يُعرّف
* بعد كل المخاضات التي تعرض لها الشعر في عالمنا المعاصر، نعود إلى السؤال المألوف نفسه: ما الشعر؟ أو في الأقل: ما الشعر بالنسبة لكَ؟
– هذا السؤال تحديداً لا جواب له، أقصد لا جواب كافياً شافياً، إذ لم يستطع أحد أن يعطي الشعر تعريفاً نهائياً، لا من الشعراء ولا من النقاد ولا الفلاسفة. وطبعاً هذا لانّ الشعر “مفهوم”، وكلّ مفهوم يتم تعريفه على وفق زاوية فهمنا له. وهنا لابد أن أذكر مثالاً طريفاً في الثقافة الغربية على استحالة بلوغ تعريف حاسم للشعر، فلو راجعنا قاموس أوكسفورد الموجز سنجد أنه يبدأ تعريف الشعر بـ”الفن أو العمل الذي يقوم به الشاعر”، ثم يعرّف الشاعر بأنه “مؤلّف القصائد”! وبهذا يكون القاموس قد عرّف لنا كُلّاً من الشعر والشاعر بالتبادل بين هاتين اللفظتين، دون أن نعرف على وجه الدقة ما الشعر، وما الشاعر! أحد الشعراء المعاصرين، هو الشاعر والناقد النيوزلندي (ستيد)، امتدح تعريف أوكسفورد الذي لا يقوم حقيقةً بأي تعريف، ووصف صياغته بهذه الطريقة بأنه “بارع ومهم”، لأنه تهرّب بصورة غير مباشرة من فخ تعريف ما لا يُعرّف.
وكان الناقد الإنجليزي المعروف (ريتشاردز) يتهكم في كتابه (مبادئ النقد الأدبي) من تعريفات كثيرة للشعر أوردها على لسان فلاسفة ونقاد وشعراء، وقال عنها إنَّها عبارة عن “تخمينات” لتعريف الشعر مهما بلغت عند بعضهم من قوة وبلاغة وعمق.
الشعر منبع الأفكار
* طيب.. إذا كان الشعر عصيّاً على التعريف، فما هو بالنسبة لكَ في الأقل؟
– بالنسبة لي، الشعر باختصار هو “عملي في الحياة”، بكل ما فيها من إبداع لغوي وتأمل وصداقات وخسارات وقيم وأفكار. أول كائن التقي به عند يقظتي من النوم هو الشعر، وآخر كائن اودّعه يومياً هو الشعر. الشعر لا أكتبه فقط، فأنا مقل في السنوات الأخيرة بكتابته لانشغالي كما تعلم بالاحتجاج والتظاهرات ودراسة الفلسفة أكاديمياً، لكنَّني أحيا في خلاله، في خلال إعادة التربية التي منحني إياها لروحي. لهذا فالشعر عندي مصدر القيم الشخصية التي أحيا بها، ومنبع الأفكار، وحافز السلوك اليومي بمحبة الناس وتقديم كلّ ما استطيع تقديمه لأجلهم، هنا يتجاوز الشعر كونه فناً إلى كونه مساحة وجود. ولهذا أيضاً لا ينفصل الشعر عن روح الاحتجاج التي تلبَّستني منذ كنت شاباً وحتى الآن، الشعر منبع الاحتجاج الأوّل.
مشكلتان تعترضان الشعر
* لنتوقف قليلاً عند الشعرية العراقية اليوم.. كيف تنظر إليها؟
– الشعر العراقي متجدّد ومغامر وحيوي. كلّ جيل جديد يقدّم لنا دليلاً على ذلك. لكنَّني أريد أن أشير إلى أكبر مشكلتين تعترضان طريق الشعر في العراق منذ تاريخ طويل، هما المشكلة التقنية والمشكلة الرؤيوية. تقنياً: عانى الشعر العراقي بصورة عامة من ظاهرة “الإسراف” في التعبير. هنالك كلام كثير في كل قصيدة، والشاعر لكي يقول شيئاً يمررنا في أشياء كثيرة أخرى، صفات وجمل اعتراضية لا داعي لها وتركيب فضفاض للشكل، بحيث تبدو القصيدة أشبه بالمذكرات المتدفقة أو كتابة الأحلام. الإجراء السحري الذي يُنسى هنا هو “الاختزال”. وتاريخ الشعر علمنا أنّ الاختزال هو سره الأعظم. إهمال الاختزال هو المشكلة التقنية الأكبر في تاريخ الشعر العراقي في كلّ أشكاله، عمودياً كان أو نثرياً. لكنني أشاهد جيل شعراء جديداً في العراق أصبح يعتني بهذا القضية ويتنبه لها. قرأت قصائد رائعة ومهمة تعبّر فعلاً عن وعي تقني احترافي للكتابة الشعرية واتمنى أن يتعزّز هذا المنحى لكي نشاهد أكبر قدر ممكن من الشعر من دون “إسراف” في التعبير.
المشكلة الأخرى هي مشكلة الرؤية؛ فقد اعتدنا في شعرنا العراقي، وبالأخص منذ انتهاء موجة الابداع الشعري في العصر العباسي الثاني، اعتدنا أن لا نجد “رؤية” جديدة في ما نقرأ من شعر، مع استثناءات محدودة للشعراء الكبار طبعاً. فالقصيدة عادة “فقيرة” فكرياً، وحتى شعورياً لا يوجد شيء مدهش. القصيدة في العمق تشبه الكلام اليومي لكنَّها على السطح مكتوبة بصياغات فنية ومجازية توهم القارئ أنّ ما يقرأه شعر. ليس كلّ مجاز قصيدة، وإنما يجب أن يمتزج المجاز والفن الشعري بالتجربة التي تقدّمها لنا القصيدة، تجربة الفكرة والحياة والقيم التي فيها، أعني القيم الشخصية. وأعتقد أنّ أبرز أسباب الفقر الفكري في شعرنا نابع من قلة اهتمام الشعراء بالفلسفة، والخشية التي نسمعها أحياناً من أنّ الفكر يصيب الشعر “بجفافه”.. وهذا طبعاً وهم، أعظم الشعراء في العالم هم قرّاء جيدون للفلسفة. الفلسفة تعطي جرعة حياة لا نهائية للشعر، وتمنحه العمق والقوة والإدهاش الفكري.
تجاور الأشكال الشعرية
* بالعودة إلى القضية التقنية التي أثرتها قبل قليل، هل يمكننا القول إنّ قصيدة النثر هي الأقرب لروح الشاعر فيك؟
– أنت تعلم أيها العزيز أنني أروّج منذ سنوات لمفهوم “تجاور الأشكال الشعريّة”. قلت أكثر من مرة إنّ كل الأشكال الشعرية متجاورة وليست متعارضة. نعم هي “مختلفة” في ما بينها من ناحية البنية والتشكيل الداخلي والتركيب الموسيقي، لكنها لا ينفي بعضها بعضاً، ولا يقوم بعضها على أنقاض بعض. وللأسف جرى تحميل حركة الحداثة في الشعر العربي محمولات “ثقافية” ذات طابع إقصائي. فأصبح الشعر العمودي في نظر أصحاب قصيدة النثر “جزءاً من الماضي” لا يمكن التعبير فيه عن قضايانا الحالية، بينما نظر أصحاب الشعر العمودي إلى قصيدة النثر نظرة ازدراء وتشكيك تصل إلى الاتهام بخيانة التراث!
كل من هذين الموقفين متشدد وقائم على عدم فهم للضفة الأخرى من النهر. جوهرياً لا يوجد شكل فني يموت أو يصبح جزءاً من الماضي، تاريخ الأشكال الفنية يقول هذا، وأقرب دليل نجده في الفن التشكيلي الذي لا يكاد يموت فيه شكل حتى ينبعث مرة أخرى، كذلك الأمر في الموسيقى والعمارة والأزياء والسينما. الأشكال في الفن لا تموت، والشعر العمودي لا يمكن أن يموت. من جانب آخر: لا يوجد شكل فني “خائن” للتراث.
الخيانة مفهوم أخلاقي “نسبي” لا ينبغي لنا الخلط بينه وبين المفاهيم الفنية، فلكل منها مجاله. فضلاً عن أنّ “خيانة التراث” مسألة تحتاج إلى التحديد، من هو الشخص الذي يملك حق الدفاع عن التراث بوصفه “ملكاً له”؟ الجواب: كلنا. كل منتمٍ إلى تراث ما.. يستطيع أن يفهمه من تلقاء نفسه، ويملك هو وحده طريقة الفهم والتعاطي من دون أن يملي أي أحد عليه منظوراً محدداً لهذا التراث. نعم، يمكن مناقشته وتفنيده، لكن لا يمكن وصفه بالخيانة لمجرد أنّه أبدع طريقة جديدة في التعبير تختلف عن الشائع والمألوف.
السينما أقرب للشعر منها الى المسرح
* يعدّك بعض المختصين بأنك تكتب الشعر بروح السينمائي، ماذا تقول؟
– سمعت وقرأت عن هذا الأمر، وأعتقد أنه صحيح. للسينما تأثير تقني كبير في داخلي. بعض الأصدقاء والمتخصصين رأوا أن بعض قصائدي مكتوبة بطريقة قريبة من المونتاج السينمائي والمشهدية السينمائية، وهذا يعود إلى أن بعض القصائد تشتمل على سرد يقطعه سرد آخر او مشهد يقطعه مشهد آخر، وهكذا. أي إنّ بعض القصائد مبنية على تتابع المشاهد مع وجود تتابع للصور الشعرية داخل كل “مشهد”. وأعتقد أنّ هذا صحيح إلى حد كبير. لا استطيع إخفاء تأثري بطريقة تركيب العمل السينمائي، ولا سيما أنه يتضمن خصوصية نادرة تتمثل في جمعه بين القدرة على إيصال فكرة عن طريق مشهد مؤلف بشكل “منطقي”، ثم القدرة على القفز بين المشاهد بطريقة غير منطقية، أو القيام بهذا الأمر بشكل معكوس. وهذا التداخل بين ما هو منطقي وما هو غير منطقي أساس الفن في كل أشكاله، لكنّ السينما لديها قدرة أكثر من غيرها على إبراز هذا التناقض باستخدام “الأشياء” كما هي قدرة الشعر على ذلك باستخدام “الكلمات”. أتكلم خصوصاً عن الأعمال السينمائية القريبة من روح الشعر أو تركيبه، وكما تعلم أنّ بعض الأفلام مصاغة كأنها قصائد، وأبرز مثال معروف لدينا أفلام (تاركوفسكي). أنا أميل للرأي القائل إنّ السينما أقرب للشعر منها إلى المسرح. (لوي أراغون)، الشاعر السريالي الفرنسي، قال ذات يوم ما يشبه هذا الكلام، وأنا أثق بصحته تماماً.
لم أتوقع أن أكتب للسينما
* آخر فيلم شاركت في كتابته كان (غير صالح للعرض) مع المخرج عدي رشيد، ما سبب عزوفك عن خوض هذه المغامرة مرة أخرى؟
– يبدو أنّ الظروف التي تسببت بمشاركتي بكتابة (غير صالح) لم تتكرر بعد. أنا أصلاً لم أتوقع أن أكتب للسينما، حدث الأمر بشكل عفوي. أعطاني عدي رشيد نص السيناريو وقال لي اقرأه. في اليوم التالي جئت بمقترحات كثيرة تتعلق بالحوار وببعض المشاهد وبالفكرة العامة للفيلم. وعدي رشيد يتمتع بخاصية مهمة أنه يتبع الفكرة ونجاحها أكثر مما يتبع نفسه، وهكذا قال لي بشكل فوري، لنعمل معاً في هذا الفيلم، وبالفعل كنا نكتب بشكل مشترك ويومي، وكان معنا في غرفة الكتابة الصديق حيدر حلو. لا أزال أتشوق للعمل السينمائي فعلاً، وإذا كان ذلك مع الصديق عديّ فسيكون مبعث سعادة كبيرة لي لأنني مؤمن بإبداعه الخاص. لقد حاولنا قبل سنوات أن ننجز فيلماً مشتركاً ترك عدي كتابته لي وحدي، لكنني للأسف لم استطع إتمامه بسبب انشغالي المغرق في إدارة اتحاد الأدباء والكتاب في النجف وسنوات الاحتجاج الأولى ودراسة الفلسفة. متى يمكنني ذلك؟ لا أعرف!
المثقف في داخله شرطي
* لنتحدث عن موقف المثقف ومشاركته في الاحتجاجات العراقية، كيف تقيّم هذه المشاركة؟
– أعتقد بصراحة، ومع وجود استثناءات قليلة لكن يمكنني القول إنّ المثقف العراقي بصورة عامة لا يزال أقل من مستوى أحداث الشأن العام، لا يزال الحدث يسبقه ويتقدّم عليه بالزمن وبالفكرة، وهو يختزل عمله بإزائه بمجرد التفسير والترويج وإبداء الدعم. لا توجد قدرة في الثقافة العراقية حتى الآن لـ”صناعة” الحدث، أي صناعة الرأي العام الذي يقوم بالتغيير والمبادرات الكبرى. وبلدنا وصل فيه الخراب لدرجة لم نعد نعرف بالضبط من أين يبدأ الإصلاح، وهذا يقتضي ظهور تيار ثقافي تغييري قائم على تقديم تاريخ جديد للعراق، وليس فقط التعليق على تظاهرات يقوم بها الشباب أو أحداث يصنعونها. أقول هذا بالرغم من وجود عدد مهم من المثقفين داخل إطار الاحتجاجات منذ سنوات، لكنه بصورة عامة وجود “داعم” وليس “صانعاً” للرؤية وللفعل. عدد المثقفين الذين أسهموا فعلياً بصناعة الأحداث العامة: محدود، لدرجة لا يمكن فيها اعتبار أن الثقافة العراقية استطاعت أن “تقود” الرأي العام، في حين أنّ لديها إمكانات كبيرة لهذه القيادة، والسبب للأسف هو تخوف كثير من المثقفين على مكانة ما يرتجونها في عين القوى السياسية الممسكة بالسلطة، أو بما يكون السبب أن بعضهم يجهل أن المثقف قادر على إحداث فرق في المجتمع، لكن يبقى السبب الأخطر أنّ بعض المثقفين يوجد في داخلهم شرطي أو شبح سلطوي، يدفعهم إما للجبن والنفاق وإما للحاق بركب السلطة والعمل ضمن ماكنتها والتحول إلى مثقف سلطوي لا أكثر!
* ما جديدك؟
– أركز في الوقت الحالي على إتمام دراسة الدكتوراه بأسرع وأفضل ما يمكن، وإنجاز كتابي الذي أعده منذ شهور حول الاحتجاج، وهو كتاب سيكون فكرياً أكثر منه كتاباً حول سيرتي في الاحتجاجات.