صلاح حسن/
بسبب القسوة المفرطة التي يتعرض لها العراقي في كل مكان يكون فيه بعد الحروب الكارثية التي تعرض لها البلد، بدأت الثقافة العراقية تتمظهر بأشكال جديدة لم تكن معروفة في هذه الثقافة التي تعرضت للتصدع والتفكك خلال الخمسين سنة الماضية. من بين هذه المظاهر التي بدأت تشكل ثيمة أساسية في الكثير من الأعمال الإبداعية الآن ظاهرة “القسوة أو الإزعاج” الموجه إلى الجمهور الذي يتابع أعمال المثقفين والفنانين العراقيين.
استخدام المؤثرات
يستطيع الفنان استخدام هذه التقنية في المسرح وفي الفن التشكيلي والموسيقى بشكل كبير، وفي الفنون الكتابية بشكل أقل لأسباب كثيرة أقلها أن الكاتب أو الشاعر سيكون بعيدا عن متلقيه لأن مجاله في الصحف أو المجلات أو الانترنت، أنها تورية تؤدي أكثر من غرض على أكثر من صعيد، لكن المسرحي يستطيع أن يخترق جمهوره، ويمكن أن يشركه في العمل المسرحي أيضا من دون إرادة هذا الجمهور، كما يمكن للفنان التشكيلي أن يستخدم اللعبة ذاتها عن طريق استخدام المؤثرات الصوتية والفيلمية إلى جانب لوحاته. الموسيقي يمكن إن يفعل ذلك أيضا عن طريق آلته التي يتحكم بمفاتيحها وأوتارها.
تقنية “آرتو”
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الان هو لماذا بدأ الفنانون العراقيون يستخدمون هذه التقنية في هذا الوقت بالذات مع إن الذي تعرضوا له أيام النظام الدكتاتوري السابق لم يكن أقل قسوة مما يحصل في العراق الآن؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال أود أن أقول أن هذه التقنية جديدة على الثقافة العراقية والعربية بشكل عام وأن رائد هذه التقنية هو الفنان المسرحي والشاعر الفرنسي “آرتو” العبقري المجنون الذي قضى نصف حياته في المصحات.
ببساطة شديدة يمكن أن نجيب عن هذا السؤال ونقول أن الفنانين العراقيين لم يكونوا بحاجة إلى استخدام هذه التقنية قبل 2003 ليس لأنهم لا يعرفونها، بل لأنهم كانوا في أتون القسوة ذاته، لأنهم كانوا غارقين في الكابوس ذاته، وبالتالي ليس هناك من داع لتكرار الفعل نفسه لأنه سيصبح اجترارا. وحينما انتهى الكابوس انتبهوا إلى أن أصواتهم اختفت ولم يعودوا قادرين أو في واقع الأمر لم يعد أحد يستمع إليهم في ضوء المتغيرات الجديدة التي جاءت بكل ما هو غريب وطارئ ومشوه عليهم.
العدو الواضح
لقد كان النظام السابق هو العدو الواضح والأوحد لهؤلاء الناس، وكان بإمكانهم أن يوجهوا رفضهم له بطرق كثيرة لا تحتاج إلى تقنيات خاصة، اما الآن وقد أصبح العدو يتناسل ويتقنع بأقنعة كثيرة فقد اختلط الأمر على هؤلاء الفنانين ولم يعودوا يعرفون من هو العدو الحقيقي. وسط هذا التيه الكامل حاولوا الالتجاء إلى هذه التقنية التي قد يكون بإمكانهم من خلالها استرجاع أصواتهم التي ضاعت في هذه الفوضى العارمة.
الملاحظة الجديرة بالانتباه أن هؤلاء الفنانين هم من المستقلين الذين لم ينتموا إلى حزب أو حركة سياسية وأغلبهم مازال يعيش في منفاه، على العكس من الكثير من الفنانين أو المثقفين الذين انضووا تحت خيام الأحزاب والحركات السياسية الجديدة التي وفرت لهم غطاء سياسيا أو طائفيا أو قوميا لا يحتاجون معه إلى البحث عن تقنيات جديدة مثل هذه التقنية، إذ أنهم أصبحوا “صوت” هذه الأحزاب.
نماذج التقنيات
في هذا المجال ومن خلال معايشتي لبعض أعمال الفنانين العراقيين الذين يعيشون في أوروبا يمكنني أن أقدم بعض النماذج التي استعارت هذه التقنية في الأعمال التي قدمت في السنوات الخمس الأخيرة بعد الاحتلال وكيف استثمر كل فنان هذه التقنية بطريقته الخاصة. في بلجيكا قدم المخرج العراقي المعروف حازم كمال الدين مسرحية “مدينة السلاح” وهي من تأليف كاتب هذه السطور وقدمت في هولندا وبلجيكا باللغة الهولندية، استخدم المخرج تقنية “القسوة” حين جعل الممثلين يحدقون بالجمهور بطريقة مباشرة واستفزازية ويروون له حكاية لا تعني شيئا يكررونها بطريقة فجة مع حركات عنيفة. يشعر الجمهور في مثل هذه اللحظات بالتوتر ويفكر بمغادرة القاعة لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لان الممثل لا يمنحه هذه الفرصة. في المجال الموسيقي قدم الموسيقار العراقي أحمد مختار في أمسية لندنية مجموعة من القطع الموسيقية من عمله “الطريق إلى بغداد” ومن خلال قطعة اسمها “رثاء النخيل” عزف مختار بعض الحركات الموسيقية التي شعر معها السامع بالأصوات الحادة التي تنطلق من آلة العود، تلك الأصوات التي لم تعتد عليها الأذن العربية.
في هذه القطعة التي تتكون من ثلاث حركات وفي المقطع الثاني استخدم مختار الموضع الثالث من العود والطبقات الحادة جدا مع نوطات كروماتيكية لا مقامية. أما التقنية التي استخدمها الفنان التشكيلي صادق كويش فاعتمدت الرسم والفيديو آرت حيث يقوم المعرض على التكامل بين تقنية الرسم وتقنية الفيديو . إلى جانب اللوحات المعروضة يظهر عرض الفيديو رجلا يرتدي كفنا أبيض وهو يستعد لرحلة الموت مع صوت يردد جملة واحدة فقط وتتكرر باستمرار لإزعاج المشاهد وإجباره على التركيز على مناخات الأعمال. هذه الجملة تقول: عزيزي ريلكه، نحن كلنا مسافرون..
في المجال الشعري يمكن أن نختار الشاعر الراحل سركون بولص الذي لم يكن منشغلا بأي شيء سوى الألم، كانت له حياة قديس مركبة على هيئة شاعر يجوب البراري والمدن المهجورة من أجل إكسير لهذا الألم الذي أصبح الخبز اليومي له وللناس الذين تجشم من أجلهم هذه المهمة الرسولية التي كان مدفوعا إليها دفعا كقدر غير مردود (رجل أراد أن يعزف/على قيثارة الآلهة/سقطت أصابعه في البار بين أقدام العاهرات). القسوة هنا غير مرئية وملطفة إلى أقصى حد ويعمل اللاوعي على تخفيف حدتها لكنها تبرز إلى السطح مخترقة كل الحواجز النفسية بسبب ديناميكيتها التي تخلق صورا لا يمكن للوعي أن يمحوها.