#خليك_بالبيت
د. علاء حميد إدريس /
يقع كتاب كنعان مكية الذي صدر بنسختين إنكليزية العام 1993 في لندن، وعربية العام 1994عن دار الجمل، بين لحظتين هما ما قبل 2003 وبعده لما دار من أحداث في العراق ومحيطه.
مخلفات الثاني من آب
قبل 2003 يضع مضمون الكتاب أمامنا عرضاً للتحولات التي مرّ بها العراق أثناء اجتياح نظام صدام المستبد الكويت وما تلاه من أحداث انتفاضة آذار العام 1991، يؤطر مكية كتابه بثنائية “القسوة والصمت” لفهم ما جرى في تلك المرحلة، إذ يرى بهذه الثنائية أنَّنا نستطيع استيعاب ما حصل وتم التغاضي عنه من الخارج، سواء كان عربيا أو دوليا، ينطلق نص الكتاب من لحظة الثاني من آب/1990 التي مثّلت صدمة وانهيار للنظام العربي الذي كان موجودا آنذاك، إذ مارس النظام المستبد أسلوب الهروب إلى الأمام بعدما انتهت حرب الخليج الأولى وخرج منها مثقلا بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يركّز مكية على محاولة ردع هذا النظام وإخراجه من الكويت، كونها تقوم على مفارقة يورد مضمونها مكية في كتابه “ينبغي إيقاف صدام، والصدع الأهم في المسعى الذي قادته أميركا ضده هو أن الفرق المعدة للاشتباك في الخطوط الأمامية لم تكن عربية. وهكذا فإنَّ كل الصيغ القديمة القومية والمعادية للامبريالية قد تعود للظهور، محدثة صدمة عظيمة، ومن أجل مستقبل العالم العربي نفسه، على العربي أن يقاتل العربي فوق رمال السعودية لاسترجاع سيادة الكويت واستقلالها”.
النفعية بالتعامل السياسي
ينبّه مكية على أن ما يكتنف العالم العربي وثقافته مأزق أخلاقي، مدار هذا المأزق كيف تعاملت المجتمعات العربية ومثقفوها مع الاستبداد وتجلياته في بلدان هذا العالم، إمّا بلا مبالاة أو بأسلوب سياسي يعتمد نوعا ما النفعية، ولذلك نواجه كما يذهب مكية “يأس وفقدان أمل مطموران في هذه الكلمات يفوقان كل ما تحتويه مكتبة كاملة من الكتب المختصة بوحشية الديكتاتوريات الشرق أوسطية والخسائر البشرية الرهيبة الناتجة عن حروبها، فأنْ تكون سياسياً، وأن ترغب في المطالبة بمعنى ما للعمل السياسي في العالم العربي، هو أن ترفض أن تصبح سجينا لهذا النوع من الكلام، فقد أتاحت عقود من العنف المتصل في المنطقة للشك والسخرية ولانعدام الثقة الكلي، التفشي بشكل مخيف بيننا”، لقد عزّزت ثنائية القسوة والصمت من الشكّ بين من يقعون تحت سطوة الاستبداد بسبب البحث عن مساحات اختلاف بين أشكال الاستبداد وكأنّ الأمر يدور بشأن أهون الشرين التي توحي بوهم خفة وطأة الاستبداد من بلد إلى آخر مع خصوصية كل نموذج تنبع من سمات المجتمعات العربية.
الأزمات الكبرى
ولذلك هناك تساؤل يحتاج منا إلى تأمل عميق، فلو افترضنا أنّ هتلر لم يغزُ أوروبا وقام بما قام به فقط في ألمانيا، حينها كيف سينظر له وبأي طريقة يتم التعامل معه ؟ ونفس الحال ينطبق على نظام صدام المستبد ولو أنّه لم يدخل الحروب التي خاضها ومارس استبداده داخليا، ماذا سيكون تعامل العالم العربي والدولي معه؟ ومع كل هذا التعقيد في مسألة الاستبداد والتعامل معه في محيطنا العربي، تبقى القضية معلقة بالأمل كما يرى مكيه “إذ لا ينبغي أن تكون الأمور سيئة مثلما هي في الواقع، فإنّ كنت مسكونا بمسألتي القسوة والعنف اللتين تفاقمتا بشكل مخيف في العالم العربي، فهذا من القناعة بأن ليس هناك وسيلة أخرى لتقليص القسوة وردها عن حياتنا، ولأنّ ما من أحد يعرف ما سيجلبه الغد، فإنّ كل شيء واللا شيء يظلّان دائما احتمالين قائمين في أوقات الأزمات الكبرى”.
يتلمّس كنعان مكية معالم القسوة والصمت عبر سرد لحياة خمس شخصيات اختارها لكي يفحص من خلالها تجليات هذه الثنائية والنماذج؛ هي خليل رجل كويتي متميّز بقي في الكويت خلال اجتياحها وتبدل على أثر تلك التجربة، التي رغم أنّها كانت مؤلمة، جعلته يكتشف من هو. وأبو حيدر ضابط سابق في الجيش العراقي ولد في مدينة النجف المقدسة، في الأول من آذار 1990 قرّر أنّه عانى ما فيه الكفاية فأمسك بزمام حياته وثار على صدام حسين، وعمر وهو مهندس مدني شاب من الأعظمية في بغداد، أمضى 49 يوما في أحد سجون العاصمة العراقية، رغم أنّه لم يتعرّض للتعذيب، ألا أنّه دخل عالما من الرعب الذي يتعذّر وصفه، وبدوره فإنّ مصطفى الشخصية الرابعة هو من التقاه مكية بكردستان العراق في تشرين 1990، فأصطحبه لمشاهدة نصب تذكاري أقامه لذكرى مقتل 68 من مواطنيه الأكراد، وأما الشخصية الخامسة فكانت الفتى الكردي تيمور الذي شاهده مكية في شريط فيديو تلقّاه في آب 1991، إذ رآه يجلس مشبوك الساقين على الأرض، يخبر كيف أنّه نجا من فرقة إعدام في آب 1988 في حين لم يحالف الحظ والديه وشقيقاته الثلاث.
القسوة والصمت بعد 2003
قطع حدث 9 نيسان 2003 مع مرحلة طويلة امتدت منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، إذ عبّرت عن سلسلة طويلة من الانتكاسات التي أكدت رسوخ القسوة واتساع الصمت عنها، ولكن هل تمكّنت لحظة تغيير النظام من إزاحة هذه الثنائية أو إعادة صياغتها بشكل مختلف؟
كانت القسوة داخليا متعاظمة حتى اخترقت أغلب مناحي الحياة الاجتماعية في العراق، كما تعزّز الصمت وأخذ صوراً متعدّدة، الغريب أنّ بعد 2003 تسلّل الصمت إلى الداخل العراقي بشكل مختلف ليقع في ثنائية جديدة مناطقية وطائفية وأمّا القسوة فتحوّلت إلى أشكال أخرى غير معهودة عن طريق استدعاء مقولات تاريخية وعقد اجتماعية ونفسية أصابت أغلب توجّهات المجتمع، لهذا يؤكد مكية ديمومة هذه الثنائية مع إزاحة الاستبداد بقوله: “القسوة والعنف يتقاطعان من غير أن يكونا واحدا، يمكن تبرير العنف، تبعا للأهداف التي يسعى إليها (مثلا فعل الدفاع عن النفس)، وقد يكون هناك عنف بين ندين في المقابل، لكن لا يمكن البتة تبرير القسوة لأنّها تقوم على تقصد إلحاق الأذى الجسدي بأفراد هم في موقع الضعف”.
النسخة الألكترونية من العدد 361
“أون لآين -4-”