حوار أجراه: د.علاء حميد – تصوير: حسين طالب /
ولد الكاتب والأديب حسّان الحديثي في حديثة، إحدى مدن محافظة الأنبار، عام 1967، وعاش فيها مرحلتي الطفولة والصبا. انتقل بعدها عام 1987 إلى بغداد التي عاش فيها حتى هجرته من العراق عام 1999، ماراً بدول عدة بينها الإمارات التي أسس فيها أول شركة تجارية، ومنها بدأ حياته العملية والتجارية.
انتقل بعدها إلى التشيك والولايات المتحدة، ثم أقام أخيراً في المملكة المتحدة البريطانية، محطات غربة لم ينفصل فيها عاطفياً وأدبياً عن وطنه العراق.
أصدر الحديثي كتباً عدة، بينها كتاب (حديث الخميس) في جزءين، قدّم فيه الشعر العربي خاصة والأدب عامة، بطريقة سهلة مختصرة تتناسب وعصر السرعة الذي يجتاح العالم. وكتاب (الطريق إلى القمر)، وهو كتاب في أدب الرحلات مطبوع على نفقة جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات قدم فيه رؤيته الأدبية لما يزيد عن 30 مدينة زارها وأثّرت فيه.
كما أن له مخطوطات في طريقها إلى النشر، مثل كتاب (السيّاب شاعر الإنسانية الأكبر) يقدم فيه رؤية تحليلية جديدة عن أسلوب السيّاب الإنساني في كتابة القصيدة، وكتاب (عشرون عاماً في دبي)، وهو كتاب سيرة ذاتية يقدم فيه مدينة دبي، والأسباب التي كرّستها مركزاً تجارياً عالمياً، وأسباب التحول والتطور اللذين حدثا فيها من وجهة نظر اجتماعية أدبية.
“مجلة الشبكة” استضافت الحديثي في حوار عن منجزه الإبداعي، ابتدأناه بسؤال:
* ما أهمية دراسة الأدب العربي وتاريخه لكَ؟
– تاريخ آداب الأمم ليس تسلسلاً للمحطات الزمنية التي مرت بها آداب الأمة، إنه فهم للتطور الذي مرَّ به هذا العلم؛ مسيرته ومتغيراته وانحرافاته، هو ليس عملية سرد لأحداث حَسَبَ أزمانها، بل هو فهم لقواعد الأدب وما جرى عليها من تعديل وتصويب، وما انشق وتفرع منها لتكوين أصول جديدة، مارّاً بكل ذلك حتى يصل إلى الزمن الذي فيه الأديب.
بناءً على ما تقدم سيكون من الصعب، بل من المستحيل، أن نجدد في آدابنا بما يتناسب معه -أي مع تاريخ الآداب- أولاً ثم مع الآداب العالمية الأخرى، وهذا لا يعني أن الشاعر لن يستطيع أن يكتب شعراً وأن الناثر لن يقدر على البيان إن لم يطّلعا على تاريخ الأدب، ولا أجعل ذلك شرطاً للكتابة، لكني أقول إن الأديب سيكون ضيّق النظرة محدود القاموس قصير الرؤية في استقاء واستدعاء المعلومة التاريخية وتجديدها والمضي فيها.
* ألا تجد أن هناك تبايناً ما بين التاريخ الحضاري للعراق وواقعه اليوم؟
– التباين موجود في تاريخ الأمم كلها، لكن العراق حالة خاصة لما تمر به هذه الرقعة الجغرافية من متغيرات سريعة، وهذا يدل على أهميتها طبعاً، فالجغرافيا غير المؤثرة لا أحد ينتبه إليها أو يأبه بها، ويكمن أثر هذه المنطقة بقدرتها على التأثير في سائر بقاع الأرض، فهي أرض رسالات وتحولات دينية وسياسية ومتغيرات ليس لها شبيه، لذا ستبقى هذه المنطقة محط أنظار البشر وهدفاً للسيطرة، كما ستبقى أرضاً ولّادة لعقول وخلاقة للأفكار، ولا أعتقد أنه سيأتي يوم على أرض ما بين النهرين لتنعم بالهدوء والأمان والسكينة، وإن حصل ذلك فسيحصل لفترات قصيرة.
* برأيك كيف أثّر موقع العراق الجغرافي في مسيرة الأدب العربي؟
– موقع العراق الأدبي جاء من موقعه الديني الفقهي، وهذه حقيقة، ولولا انتقال العاصمة الإسلامية مع الإمام علي إلى الكوفة وتولية أبي الأسود الدؤلي على البصرة لما كانتا محطتي جذب لعلماء القرآن والحديث، ثم دراسة الفقه واللغة والتأسيس لأقدم مدرستين لغويتين في تاريخ العربية.
لنكن واقعيين، يحتاج الفقه وعلوم القرآن والحديث إلى اللغة، واللغة شاملة للأدب والبلاغة وما يتفرع منهما من علوم للنحو والصرف، والاختلاف بين المدارس أصل التطور لأنه دافع عظيم للدراسة والتجربة، هذا من جانب، ومن جانب آخر وجود بغداد العاصمة ومركز القوة جعل الشعراء يتنافسون للوفود عليها والفوز بنوال خلفائها وأمرائها وعطاياهم، وخلق بابٍ عظيم للمنافسة أثّر ايجابياً في نهضة الأدب العربي. وبالمناسبة، هذا ينطبق على كل العلوم وليس على الأدب واللغة والفقه فقط، وأعظم دليل هو تطور العقل الأوروبي في مجال العلوم والصناعة والابتكار لتعدد مدارسهم واختلاف تجاربهم وخلق باب المنافسة بين علمائهم. وإنما أصبحت اللغة العربية اللغة الأوسع والأعظم لكثرة الدراسة والتنويع والاختلاف.
* أصدرتَ كتاب (الطريق إلى القمر) وهو كتاب في أدب الرحلات، ما الذي أثارك وحفّزك لكتابته؟
– حين يزور المرء مدينة ويرى خصوصياتها وما تختلف به عن بقية المدن، ثم يطّلع على طباع أهلها وجغرافيتها وتاريخها، ويشرب من مائها ويشم هواءها، لا يتركها إلا وهو محمل بشيء منها، وهذا ما حصل معي، (الطريق إلى القمر) هو كتاب وصف وسرد لما حمّلتني به بعض المدن التي زرتها وأثّرت فيّ، فجاء الكتاب وصفاً وتعريفاً لهذه المدن.
المدن كيانات وليست جمادات، ومن لم تؤثر فيه مدينة زارها ولم تترك فيه شيئاً فليراجع نفسه، والأثر هنا ليس إيجابياً بالضرورة، لعله سلبي، لكن حتماً هناك أثر يضيف شيئاً لشخصية الزائر وكأن المدن تتلاقح مع زوارها فتترك منها شيئاً فيهم، وإن قصرت الزيارة. الفكرة هي كيف نستطيع أن نكتب ذلك الأثر ونبيّنه للناس فنكون قد نقلنا تجاربنا في مدن زرناها لأناس لم يتسنَّ لهم أن يزوروها.
* لديكَ مخطوطة عن شعر السيّاب ومواقفه، ما الجديد الذي ستطرحه في هذا الكتاب؟
– ظاهرة السيّاب ظاهرة أبدية، أي إنني سأكون أحد من يكتب عنه، وسيأتي بعدي من يجد ما يكتبه عن السيّاب، وهكذا الحال والأمر في كل عصر، والسبب في ذلك أن السيّاب شاعر متجدّد في فكرته وأسلوبه، ولأن غالب الشعراء يُقرأ وتنتهي قراءته، إلا السيّاب، فقد ترك في شعره ما يتجدد مع كل عصر، ولن أبالغ إذا قلت إنه يتجدّد مع كل قراءة، شخصياً أجدني أدرك نصوص السيّاب أكثر في كل قراءة، بمعنى إن هناك شيئاً في نصوصه يتوضح مع تجدد القراءات. إن ما أردت أن أركز عليه في كتابي وباختصار، هو كيف استثمر السيّاب إنسانيته في شعره وجعلها محوراً يدور عليه كثير من قصائده.
* في ظلّ ما نشهده من اتساع حركة ترجمة الأدب العراقي إلى لغات أجنبية، هل يمكننا القول بوصوله إلى العالمية؟
– ينقسم الشعر العربي إلى قسمين: القديم الكلاسيكي، وهذا انتشاره صعب لصعوبة ترجمته، والحديث، الذي انتشر انتشاراً عظيماً لكثرة التراجم، وهنا أجد أن في العقود المقبلة سيكون للترجمة أثر كبير في نقل تجارب الأدباء والكتـّاب العرب إلى بقية اللغات، وبلا شك سيكون الشعر أصعبها.
* أنت من المهتمين بالتاريخ، كيف تنظر إلى جيل ما بعد سقوط الديكتاتورية عام ٢٠٠٣، هل هو امتداد للأجيال السابقة أم أنه نقطة تحول في مسيرة الثقافة العراقية؟
– يجب أن نعلم أن كثيراً من الأدباء العراقيين هاجروا قبل التغيير ولم يتغير لديهم شيء، التغيير هو لأدباء الداخل، هذا جانب، الجانب الآخر هو أنني أجد أن هناك جيلاً من المجددين الكبار في الداخل، يتبعهم جيل من الشباب المتأثر بهم سيحاولون إضافة لمسة حديثة إلى الأدب العربي، وهذا ليس أمراً جديداً، فلطالما كان العراق مصدر تجديد في الأدب العربي، وليس السياب منا ببعيد. لكن من النظرة العامة لا أجد فرقاً كبيراً بين ما قبل 2003 وما بعدها، ما حدث من إبداع في الفترتين هو إبداع فردي في نسبته العظمى وبعض الحراك المؤسساتي المحدود هنا وهناك، وهذا يعني أن الأديب العراقي مقاتل حقيقي للحفاظ على تراثه القديم وإرثه التليد أولاً، ثم الامتداد والإبداع به إلى ما يتناسب وحال الزمن، ولو تفحصنا تاريخنا الأدبي المعاصر لوجدنا أن العراق هو بلد الخلق الأدبي والتجديد في الشعر أولاً، وخير دليل على ذلك انطلاق المدرسة العظيمة للشعر الحر التي امتدت لتشمل كل الأمصار والدول العربية، وما يزيد من أثر العراقيين فيها أن الأساس لم يكن عراقياً فقط، بل إن الريادة عراقية أيضاً، وهذا ما يجعل حصة العراقيين في الإبداع والتأسيس له كبيرة ومؤثرة.
ختاماً أجد أنه من الأهمية أن نناصر الأديب العراقي وألّا نضعف من قدراته أو نكسر من ثقته، وأنا هنا لا أتكلم عن المنافسة، فهي أم الخلق والإبداع، لكني أتكلم عن الحط من القدرات الفردية للشعراء والأدباء العراقيين بداعي الحسد أو المحاربة.
أنا أدعو الأدباء والكتّاب كافة أن يساند بعضهم البعض الآخر متى ما وجدوا أدباً حقيقياً، حتى إن لم يقابَلوا بالمثل، فالأصل هو النهوض بالواقع الأدبي والتجديد فيه لجعله في مقدمة الآداب العالمية، ولاسيما نحن نرى آلاف النصوص العراقية تترجم الى أمهات اللغات العالمية، وبلا شك إنها ستؤثر فيهم وتحبّب لغتنا إليهم.