طالب عبد العزيز/
أحتفظ بدفاتر قديمة كثيرة، كنت خربشت فيها ذات يوم، اهملت بعضها وفقدت بعضها الآخر، لكنني ما زلت أحتفظ بالكثير منها، هي مسودات قصائد وخطاطات شعر ومشاريع مواد كتابية وآراء منقولة من كتب ومجلات وصحف، يقع بين يدي البعض منها ساعة أعيد ترتيب المكتبة، فأتصفحه، أنعم النظر به، لا أجدني ميّالاً الى نشره، ولا أملك الرغبة بتمزيقه، ستظل الدفاتر والأوراق تلك، شاهداً على ما مرَّ قبيحاً وجميلاً، أو ما مررنا به، في المدن والسياسة والثقافة والأقانيم.
الحادثة المأساة
منذ سنوات والصديق الناقد حاتم العقيلي يخفي عنّي كتابه النقدي الذي انجزه، أو قارب إنجازه عن تجربتي في الشعر. وبمجساته القرائية التي أعرف أهميتها، نبهني الى قضية لم أحدّث أحداً فيها، أنا صاحبها، بل أنا ضحيتها، تلك الفترة التي تنحصر بين عامي 1977-1978 حين اقتحم البيت رجالُ من الأمن وأعضاء في حزب السلطة كنت أبصرهم يذهبون ويعودون الى منظمة الحزب الحاكم، في أبي الخصيب آنذاك، بتهمة الانتماء الى حزب سياسي معارض. في الحادثة المأساة، التي يعرفها أهل القرية، حيث أسكن. ولست بشأن سرد ما حدث في تلكم الأيام، فهذا مما لم يئن الحديث فيه بعد، إنما أريد أن أكتب بشأن القصائد التي كتبتها في الحقبة تلك أو عقب الليلة المشؤومة، حيث كانت تنتظرني سيارة اللاندكروز البيضاء.
في سنوات الشعر الأولى، حين كان حامل جمر الحروف يسرع إلينا عند كل صغيرة وكبيرة، حين كانت الروح تنشغل بقضية واحدة، لا غير، هي الشعر. كنتُ أحتفظ بين أصول الكرب المقطوعة، أو في الفسائل الملفوفة بالسعف وفي يافع النخل ببستاننا بقصاصات أوراق وأقلام رصاص، هي مما احتاجه، ساعة أجدني بين حديّ قصيدة، أو هكذا خيل لي آنذاك، ففي مطالع حياة كل شاعر، هناك اعتقاد بإن كل حرف يخطه، كل بيت يسطره على ورقة هو شعر، لذ كنت أترك مثل الحاجيات تلك بين السعف، أو أحشرها بين غصنين متعامدين في شجرة توت أو تحت عريشة عنب، مما كان يزرع الأهلُ ويسقون.
حمّى ملاحقة السلطة
في السنوات التي تلت، كنت أجد بعضاً مما خربشت في تلكم الأيام، أوراق انحشرت بين السعف ومثلها أخرى سقطت وبللتها أمطار الشتاءات، او أكلت أطرافها رطوبة الأرض. هكذا، كلما هزت ريح عابرة غصناً سقطت ورقة، كلما انتفض عصفور سقطت أخرى وكلما اقتربتُ من جذع خائف، سألته ما إذا كنت قد خبأت بين كربه إحداهن. وفي حمّى ملاحقة السلطة لي، في تعقّبها الذي طال لما أحمل وأقرأ وأكتب، رحت ألقم أرض البستان الرحيبة الكتب والدفاتر والصور والأوراق، أدسُّ في جوفها الرحب ما كان سبباً في تعقب الحكومة لي، صارت الأرض حبلى بما قرات وكتبت وخفت منه، وفي كل عام كنت أمنّي النفس باستخراج ما استودعت، لكنَّ الدولة برجالها وبنادقها ظلت ممسكة بمحاريث الأرض، تزرعها رعباً وموتاً.
أخيلةً من حروف وظلال
وفي الليالي المظلمة، مندثرة الأقمار، كنت أتسلل مثل لصٍّ إلى حيث دفنت الكتب والأوراق والصور تلك، لكنني كثيراً ما كنت أخطئُ في الأمكنة، فأحفر في عاقر من الأرض، أو يابس منها، لا ينبت إلا أخيلةً من حروف وظلال تصاوير ظلت تشحب في الزمن، وتتراجع في الذاكرة، حتى أمسيت أنسى، ضاعت عليَّ مجاورة الأنهار واستوحشتُ يدي بعد مؤانسة بين النخل، امحت خرائط كثيرة، كنت أستعين بها على الورقة هذه والكتاب ذاك. حرث أخي الأكبر -من حيث لا يعلم- الفسحة التي ما زلت أعتقدها مكاناً لما دفنت فيه، ومرَّ الماءُ نشيدَ ثمارٍ قادمةٍ في السواقي التي احتفرها لزروعه، تفتقت حبة الفاصولياء ومدت سفرجلة جذراً طويلاً هنا، وتمددت نبتة القرع بكراتها الصفر الى حيث شاءت من الأرض، كذلك فعل أكثر من غصن، أكثر من عصفور راح ينقر ما تناثر من حب وزهر. لكنني، ما زلت وبقدم وليّ أطأ الرخو من التراب، اهبط مصغياً، لما قد يندفع بين أصابعي، لعل قصيدة ما تستصرخني، صورة من نديِّ الأرض تلوح، غير أنني كنت أخذل دائماً.
كتاب يحكي قصة الشعر
أما وقد بيعت الأرض، واتسعت الشوارع وردمت الأنهار، وبنى آخرون منازل هنا وعنابر هناك.. يتوجب علي أن أعكفُ على جمع الخطاطات والأوراق والصور تلك، سأعيد نبش الأرض التي ما زلت أظنها أمينة عليها، وسأظل أحفر ثانية وثالثة، علني أجدُ ما أضعته في مواتها، وإن عثرت على بغيتي فيها، فسيكون الوقت قليلاً على ترتيب أزمنتها، لكنني أراني مضطراً الى الاصغاء لوجيب روحي لذا سأعمل على تشكيل الحروف والجمل والصور بحسب ما يلزم، أجعل الورقة هذه الى تلك، والصورة تلك جوار القصيدة هذه، وأقرّب ما امحى من التواريخ والاسماء، وهكذا، سيقوم من جوف الأرض كتاب جديد، كتاب يحكي قصة الشعر والقصاصات المهجورة بين السعف وتحت الظلال.