علي حسن الفواز/
نتعلم تداول الأفكار يعني توسيع مجالات المعرفة، لأننا سنجد فيها مايجعل حياتنا أفضل، وأجمل.. وطبعا هذه الأفكار تشمل التعرّف على الجمال والفنون والفلسفات والعلوم، وأحسب أن القوة الأخلاقية لهذه الأفكار تكمن فيما تعطيه للإنسان من حوافز لكي يبحث عن المزيد منها، ولكي يثري الحياة بها وبكل ماتحمله من قيم ورموز وخبرات، وبما تثيره من أسئلة تحفّز على النقد والمراجعة..
علاقة الأفكار بالحياة تهمنا كثيرا، إذ أن بقاءها بعيدة عن الإستعمال سيصيبها بالصدأ، وربما يُفقدها الكثير من جدواها، وإن الإقتراب منها يعني التعرّف على خصوصيتها في تنمية الوعي والمعرفة، وحتى في بناء القيم الروحية لأي منا…ولا أحسب أن هناك مجالا في الحياة بعيدا عن تأثير المعرفة والكتب والفن بشكل خاص، لأن التعرّف على القيم الجمالية عن طريق القراءة والمشاهدة سيكون مصدرا مهما لتأهيل الوعي الإجتماعي لأن يكون وعيا ثقافيا، ووعيا جماليا وحتى وعيا نقديا، وهذا بالضرورة مانعنيه بإفادة الناس من الافكار، على كل المستويات والمراحل بدءا من الدروس الأولى في العائلة وفي المدرسة، وحتى في المراحل الأخرى من التعلّم، إذ لايوجد تعلّم حقيقي خارج الكتاب، وخارج المشاهدة، وخارج التفاعل مع الناس في المقهى والشارع والعمل والمدرسة والكلية، وكذلك في الندوات والمؤتمرات وورشات العمل وغيرها من فضاءات الإتصال المباشر وغير المباشر…
المعرفة الجمالية أولا..
أن نتعلم، يعني أننا بحاجة للبحث عن كيفيات الحصول على العلم، وكيف لنا أن ندرّب أنفسنا على المشاركة الإيجابية، وأن نُكسب أنفسنا عادات وخبرات القراءة، وتدريب العين على المشاهدة الفاعلة، وإكتساب عادات الحوار والمناقشة وتحسين أنماط السلوك، بما يعمّق فاعلية صناعة الوعي الاجتماعي، وأشكاله الجمالية، وبالتالي تكوين الشخصية الثقافية، تلك التي تكون أقرب في عاداتها وسلوكها لقبول أفكار التنوير والإصلاح والتفاعل مع الآخرين، وأحسبها ستكون النواة الأولى للجماعة الثقافية، وصولا الى مايمكن تسميته في علم الإجتماع بـ(المجتمع الثقافي) أي المجتمع الذي تؤطره قيم ثقافية، وهو الأكثر قدرة على إنتاج القيم والعادات والثقافية وإستعمالها، والتمتع بمعطيات المعارف الجمالية والفنون، وإدخالها في كل منظومات الحياة، بما فيها المنظومة السياسية والدينية والحقوقية..
قال لي أحد الأصدقاء وهو الروائي علي بدر: إن الديمقراطية لاتصنعها التحولات السياسية الكبرى، وأن التغيير السياسي لايصنع هذه الديمقراطية لوحده، إذ كثيرا ماتقود هذه الفرادة الى صناعة أشكال من العنف والصراع الإجتماعي والتطرف والغلو، وربما العسكرة وهيمنة الأفكار المركزية، لكن التطور الروحي هو مايمكنه إحداث الكثير من التحولات، وتمكين الإنسان من أن يكون كائنا فاعلا في تغيير الكثير من الأشياء التي تحوطه، بما فيها قيم الجمال والمعرفة والحرية والديمقراطية والقبول بالآخر.
الحصول على الكفاية من الحرية المسؤولة يرتبط بحجم تلقي المعرفة بمعناها العميق، معرفة التعلّم، والفهم، والمشاركة، بمافيها المشاركة السياسية، والتعرّف على القيم الديمقراطية والحقوقية، وعلى نبذ التطرف والكراهية والتكفير والغلو وغيرها من مظاهر العنف الإجتماعي..
المعرفة وضرورات التغيير..
المعرفة الحقيقية تعني الفهم دائما، مثلما تعني التمتع العقلاني بالجمال، لاسيما الجمال الذي تصنعه الفنون والقراءات والأسفار، لأن الوعي بتوصيفه القيمي هو ممارسة إجتماعية، وهو جزء صناعة الحياة اللائقة، والبعيدة عن أخطار الإستخدام السيئ للأفكار، تلك التي تصنعها للأسف جماعات فقدت القدرة على إكتساب المعرفة، تلك التي إرتبطت بمؤسسات وبمنظومات معقدة من الأفكار التي صنعتها السلطة وإيديولوجيا الرعب التي عكست حجم الهشاشة المعرفية التي كنا نعيشها، وهشاشة الوظيفة الثقافية التي بدت وكأنها فاقدة لقيمتها الإجتماعية..
ظاهرة السياسة تضررت كثيرا بسبب هذه الهشاشة، وفقدت مذاقها الاجتماعي، وبدت وكأنها وظيفة عامة ومباحة، وسهلة وبدون تقاليد، وحتى فقدت الكثير من مهنيتها وموضوعيتها في إدارة شؤون ومصالح الناس..
السؤال هنا: كيف الطريق للإصلاح، ولترميم وعي الناس، ولإعادة صناعة صورة أكثر إيجابية للمثقف وللسياسي وحتى للخطاب الإجتماعي والديني؟
بعضهم قد يقول أن الإجابة عن هذا السؤال الكبير تتمثل في تحسين الصناعة السياسية ذاتها، لكني أجد أن الأمر ليس هكذا، وأن الشروع بترميم الخراب الروحي هو العتبة الأكثر فعالية ومصداقية في مواجهة الخراب العمومي، ولعل من أبرز مصادر ووسائل هذا التأهيل يكمن في الفنون بمعناها الواسع، والإهتمام بالمعرفة وتغذية مجالاتها المتنوعة في العلم والأدب والفن بشكل خاص، لان هذا التطور الروحي كما سماه علي بدر هو المدخل لمواجهة مأزق بناء الدولة الحقوقية، وبناء الذات المستلبة، وفتح قنوات جديدة للحوار الثقافي، الحوار الذي يعنى بصناعة الحياة أكثر من الإنشغال بالموت والحروب، لأننا سنجد الكثير من وعي الحرية ومسؤوليتها في هذا الحوار، وفي تحسين أدواته، وفي توسيع مديات المعرفة، وصولا الى صناعة الرأي العام الفاعل والحقيقي، والذي يمكنه أن يكون مصدر الضغط على مشرّعي القوانين وصنّاع القرار السياسي لكي يعيدوا النظر بالكثير من مظاهر التردي في حياتنا السياسية والإجتماعية والإقتصادية والخدماتية، وبالإتجاه الذي يمكن تيسير الحصول على المعرفة بكل حلقاتها ومستوياتها ومجالاتها، لانها المصدر العملياتي والإجرائي للوعي، ولايمكن لأي جماعة أو مجتمع أن يغيّروا واقعهم دون معرفة..
المعرفة والفهم هما الطريق المثالي للتغيير، وللإقتراب من الحداثة والحضارة والتنوير، وحتى الحريات الحقيقية لاتأتي من تلقاء نفسها إن لم نعمل من أجلها، وإن لم نيسّر لها أدوات معرفتها، وتعريف الناس بها، لاسيما من الأجيال الجديدة تلك التي عمل العنف والإستبداد والحروب والغلو على تشويه أرواحهم وتغريبهم عن المستقبل، وتركهم فرائس سهلة للأفكار المتطرفة ولثقافات العنف والتعسكر..
الدعوة للمعرفة، هي أيضا دعوة لصناعتها، ولأن نكون معا في أفق تعلمها وإستعمالها والتدرّب على أدواتها وتنمية الإحساس بها وبقيمها وبمذاقها ومزاجها، فما نراه أمامنا الآن لايمكن تغييره الاّ بالمعرفة، بما فيها معرفة العدو ومعرفة من يصنّع الخراب لنا…