حسين محمّد عجيل /
مثلما جمعت طبيعة الاهتمامات الثقافيّة بين الأب العلّامة أنستاس ماري الكرمليّ (المولود ببغداد سنة 1866) وتلميذه وصديقه العلّامة الدكتور مصطفى جواد (المولود ببغداد سنة 1906) في حياتهما المكتنزة بالمنجز المعرفيّ الثرّ في مجالات اللغة والتاريخ والترجمة والخطط وتحقيق التراث وفنّ التراجم والصحافة والتراث الشعبيّ، ولم يمنع من ذلك أنّ الأوّل يكبر الثاني بأربعين عاماً..
تقاربت ذكرى يومي رحيلهما بحيث لا يفصل بين المناسبتين الحزينتين سوى 20 يوماً، وإن كان الفاصل الزمنيّ بين الحدثين 22 عاماً، فقد توفي الكرملي يوم الثلاثاء 7 كانون الثاني 1947، فيما رحل مصطفى جواد يوم الأربعاء 17 كانون الأوّل 1969.
وإحياءً لهذه الذكرى المتزامنة لرحيل العلّامتين الجليلين، مرور 51 عاماً على رحيل مصطفى جواد، ومرور 74 عاماً على رحيل الكرمليّ، أقدّم اليوم رسالةً نادرة عمرها 85 عاماً، ولم يسبق نشرها، تكشف عن طبيعة الصلات الإنسانيّة والمعرفيّة والروحيّة العميقة التي جمعت بينهما من جانب، وتقدّم – من جانب آخر – مدى التقدير والاحترام العلميّ الذي كانا يحظيان به في النطاق العربيّ والعالميّ، بوصفهما ممثّلين للثقافة العراقيّة الناهضة في النصف الأوّل من القرن العشرين.
رسالة من القاهرة إلى باريس
كتب الكرمليّ رسالته يوم الاثنين 20/1/1936، من دير القدّيسة سانت تريزا، الواقع في قلب شارع شُبْرا الرئيس بالقاهرة، الذي شُيّد سنة 1931، وقد كتب تاريخها باللّغة الفرنسيّة التي يجيدها مع نحو عشر لغات أخرى، واعتاد الكرمليّ أن يقيم في هذا الدير منذ إنشائه كلّما زار القاهرة لحضور جلسات مجمع فؤاد الأوّل للغة العربيّة (مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة حاليّاً) الذي انتخب فيه سنة 1934 ممثّلاً وحيداً عن علماء العراق. وتلقّى مصطفى جواد هذه الرسالة وهو بباريس، حيث كان يدرس بجامعة السوربون، ويتهيّأ لإعداد رسالة الدكتوراه عن سياسة الدّولة العبّاسيّة في القرن السّادس للهجرة، وأثر الخليفة النّاصر لدين الله فيها.
أوّل ما سيلاحظه قارئُ الرسالة، أنّ الكرمليّ – وهو الراهب الذي نذر نفسه للدين وظلّ مدى حياته بلا زواج – خاطب تلميذه النجيب في الرسالة بصفة “ولدي العزيز”، وهي تدلّ على مدى المكانة التي له في نفسه، فقد وجد في مصطفى جواد ولداً روحيّاً له، بغضّ النظر عن تباين الأرومة واختلاف الدين، فكانت الثقافة جامعة، والمواطنة العراقيّة تشّد أواصرهما شدّاً لا انفصام له.
أوّل رحلة بالطائرة
ثم تبتدئ فصول الرسالة ذات الصفحتين، المكتنزة بكلّ معاني المحبّة الأبويّة التي يحملها الكرملي لمصطفى جواد، إذ يُظهر فيها شديد حرصه على أن لا تؤثّر المكاتبات بينهما على وقت دراسته الثمين، وإن كان يرغب في مثل هذا التواصل: “لا أريد أن ألحّ عليك بالكتابة لكي لا أشغلك عن أعمالك، وهي أهمّ بكثير من توجيه قلمك إليّ، وإنْ كان يطيب لي ما يُعَسِّل، ويتدفق منهُ علماً وعرفاناً”.
بيْدَ أنّ الكرمليّ كان يريد أن يشاركه تجربته الفريدة في أوّل ركوب للطائرة، مسافراً من بغداد إلى القاهرة يوم الجمعة 3/1/1936، وهي تجربة أدهشته حين غادر بغداد ظهراً، فوصل القاهرة عصراً، بعد أن كان يقضي أيّاماً في سفرٍ بريٍّ مضنٍ يخترق بلداناً ومفازات، معرَّضاً لمخاطر عديدة، فكتب يقول: “أردتُ أن أقول لك إنّي غادرتُ بغداد في 3 من هذا الشهر، ولم أتمكّن من أن أبرحها في الأوّل؛ لأنّي لم أجد طيّارةً تركب متن الهواء في ذيّالك اليوم، فَطِرْتُ ظُهْراً من المطار، ووصلت إلى القاهرة في الساعة الخامسة، في الدَيْر الذي تعرفه حينما كنتَ تتردّد إليّ وأنت في القاهرة، فيا لها من سرعةٍ لا يدنو منها سَرَعُ الطير”.
مفارقات في جلسة مجمع القاهرة
وفي الفقرة الثانية يوجز صديقه بمفارقات جلسة المجمع اللغويّ، المنعقد في الأسابيع الثلاثة الأولى من سنة 1936، بمشاركته مع كوكبة من أبرز العلماء المصريّين والعرب والمستشرقين المشتغلين باللغة العربيّة، ومن أبرزها قوله الدالّ على سعة علمه، وضيق وقته الذي يصرفه عن الاحتفاظ بنسخ ثانية من مقالاته: “كانت الإدارة قد طلبت من المستشرقين ومن أبناء الديار العربيّة من أعضاءِ المجمع، أن يحبّروا مقالاتٍ للمجلّة، فأنشأتُ برسْمِها نحو ثماني مقالات، فصدر هذا الجزءُ وليس فيه سوى ما أُلقي من خُطَب في المجمع في السّنة الماضية، ومقالاتٍ كلّها للأعضاء المصرييّن، فوجدتُ بهذا الاحتكارَ نوعاً من التعدّي والظلم، سامحهم الله عليه! ويا ليتَ يعيدون إليّ مقالاتي؛ لأنّي كتبتُها من غير أن أحفظ منها صورةً، ولا أتذكّر الموضوعات التي عالجتُها فيها”.
ولا يكتفي الكرملي بهذا، بل يكشف عن غريب عاداته الكتابيّة، ولا يجد غضاضةً بلوم نفسه قائلاً: “أنت تعلم أنّي لا أُبقي نسخةً ممّا أكتبُ، ولا أعيدُ النظرَ في ما أحرّر، ولهذا يفوتني سَبْقُ قَلَمٍ كثير، فتأتي الأغلاطُ من غير قصد، ويصعب عليّ أن أغيّر طبيعتي هذه المذمومة”.
تقدير فرنسيّ استثنائيّ
ينتقل بعدها الكرمليّ إلى جوهر ما أراد من هذه الرسالة، وهو أن يمنح ولده الروحيّ طاقةً إيجابيّةً عاليةً تقوّي إرادته، وتزيد من عزمه على استكمال دراسته بنجاح باهر، فينقل له بفخرٍ ثناءً غير مسبوق على شخصه، جاء على لسان اثنين من أبرز المستشرقين الفرنسيّين وأساتذة جامعة السوربون، وهما: لويس ماسنيون (1883-1962) أعظم مستشرقي فرنسا في القرن العشرين، المشهور بدراساته المعمّقة، ولا سيما عن المتصوّف البغداديّ الحسين بن منصور الحلّاج، ووليم مارسيه (1874-1956) المعروف بعبارات تغزّله بجمال اللغة العربيّة، والذي عُدّ في صدارة المستشرقين الأوربيّين، بترجماته من العربيّة إلى الفرنسية، ومن بينها ديوان أوس بن حجر التميميّ، وبدراساته في اللغة العربيّة واللهجات المغربيّة. وهذان المستشرقان كانا من بين أساتذة مصطفى جواد في جامعة السوربون.
إنّ ثناء هذين المستشرقَيْن الكبيرين نادراً ما يصدر عن الذهنيّة الغربيّة التي تبتعد عادةً عن المجاملة والمبالغة في كيل المديح والأوصاف الاستثنائيّة، لكنّ كلّ هذا وأكثر منه صدر عنهما بحقّ مصطفى جواد في جليل علمه وسموّ أخلاقه، إذ كتب الكرمليّ يقول: “جلس الأستاذ ماسنيون بجانبي في المجمع، وسألتُه عنك، فقال لي هذا الكلام الذي أكاد أنقلُه إليك بالحرف العربيّ المترجم: «قال لي المسيو مارْسه أستاذ مصطفى أفندي: إنّي لم أجد شابّاً عربيّاً أو غربيّاً أظهرَ من العلم والدراية وسعة العرفان في اللغة العربيّة وقواعدها ولغتها مثلَ هذا الشابّ، فإنّه يفوق كلَّ وصف. وذلك منذ وجودي على منبر التدريس في الصربون منذ عشرين سنة»”.
ويواصل الكرملي سرده قائلاً: “ثمّ زاد على ذلك المسيو ماسنيون وقال: أمّا أنا فلم أجد نفساً رقيقةَ الشعور، دقيقةَ الإحساس، مقدّرةً للإحسان والإقرار بالجميل، مثل مصطفى أفندي جواد. والذي يجالِسه أو يخالِطه لا يمكن أن يعرف أنّه من أبناء الشرق، بل من أبنآء أكابر “الناس، الذين” ربوا في بيوت أهل الشرف والنبل”.
وما بين القوسين المعقوفين تكملة منّي اقتضاها السياق بسبب طمس في أصل الرسالة.
محبّة أبويّة وتواضع
وهذا الثناء المستبعد الصدور، كان مصدر سعادة كبيرة في نفس الكرملي، فكتب يقول “كانت هذه الكلماتُ من أطيب ما سمعتُ عنك.
إنْ كانت تلك التي فاهَ بها المسيو مارْسه، أو التي نطق بها المسيو ماسنيون، وهو معجَبٌ بكَ أشدّ الإعجاب”. ثم قال مؤكّداً دور الأب الروحيّ حياله: “وقد أفرحتني تلك الكَلِمُ أكثر ممّا لو كانت تتعلّق بي؛ لأنّ مدحَ الولدِ فخرٌ للأب”.
كنتُ قد وصفتُ الكرمليّ – في مقالة سابقة – بأنّه كان رافعةً عملاقةً للمواهب الفذّة في بلادنا، ورائداً كبيراً في رعايتها والتعريف بها وتمكينها، ولذلك لم يكن أقلّ إعجاباً من المستشرقَيْن الكبيرين بعلم مصطفى جواد وعبقريّة نظراته وأحكامه في اللغة العربيّة، فقد دعاه في ختام هذه الرسالة، بعبارات مترعةٍ بالتقدير العميق، إلى الحكم بينه وبين مخالفيه من علماء مصر، راضياً بحكمه، وكتب يقول بعد أن أوضح طبيعة الخلاف: ” فما الذي تراه يا عزيزي مصطفى وقد وُضِع علمُ العربيّة في ذهنك وعلى شفتيك وضعاً يكاد يكون وحياً من السماء، وإنّي راضٍ بما تبتّه في هذا الموضوع”.
وخصلة التواضع هذه عند الكرملي، لا تتجسّد في هذه العبارات التي خصّ بها مصطفى جواد، بل هي من خصاله الثابتة التي عبّر عنها في مكاتباته مع معاصريه، إذ اعتاد أن يختمها دائماً بحرفين هما (غم)، اللذين يختصر بهما عبارة (غير المستحقّ)، كما فعل في رسالته هذه، وهو مَن هو علماً وفضلاً واستحقاقاً لعظيم التقدير من عراقيّي اليوم وأجيال عراقيّي الغد.