كريم راهي/
في مطلع السبعينات من القرن الفائت، صدر للسياسي والناشط في مجال الحقوق المدنية، الأمريكي (آبّي هوفمان) كتابٌ تحت عنوان (أسرقْ هذا الكتاب)! بيع منه ربع مليون نسخة خلال أشهر معدودة، عنك ما سرق منهُ من متاجر الكتب، وقد هوجم الكتاب ومنع في أمريكا وكندا لاعتقادهم بأنّه يحرّض على السرقة، لكن هوفمان كان يؤكد في أكثر من محفل، أن رسالته كانت محاربة السلوكيات الشائنة في المجتمع الرأسمالي.
سرقة مشروعة!
إنّ قرّاء الكتب في العالم بأسره لا يجدون حرجاً في أن يعترفوا بقيامهم في فترة ما من بواكير حياتهم بسرقة الكتب، فهي برأي بعضهم مشروعة، بل ويذهب آخرون لاعتبارها من الفضائل، ولطالما كانوا يردّدون عبارة (سرقة الكتب حلال). وهم يفرّقون بين لص المكتبات العامة ولصّ متاجر الكتب، ويضعون الأول بمنزلة السارق الذي يحرم غيره من الاستفادة من الكتاب، بينما يبرّئون أنفسهم من الجرم، ويضموّن إليه، عملاً بمقولة برناردشو، إستعارة الكتب بنيّة عدم إرجاعها، كي لا يوصفوا بالحمقى.
وبرغم أن بعض المذاهب نصّت على إقامة الحد على من يسرق كتاباً، إلا أنها استثنت المصاحف وكتب التفسير والحديث والفقه وغيرها من العلوم التي عدّوها نافعة، “لأنّ آخذها يتأول في أخذه القراءة والتعلّم”. وأباح بعضهم سرقتها بنيّة قراءتها، بينما ذهب آخرون بالقول أن حتّى غير القارئ يجوز له ذلك، باعتبار أنه قد يقرأها فيفيد من علومها. كما استُثني سارق كتب (البدع والمحرّمات) من عقوبة قطع اليد. وكذلك سرقة الكتب من الحكومات التي لا تبيح الشرع.
وصية لا تسرق
ولم تمنع وصيّة (لا تسرق) في الكتاب المقدّس من سرقة نسخ من الكتاب ذاته، ففي مكتبة أحد الأديرة بالبرتغال خُطّت لائحة من الدعوات الشنيعة على كل من يتجاسر ويسرق منها، نقلها مانغويل في (تاريخ القراءة) ونصّها: “من يسرق كتباً، أو يحتفظ بكتب كان قد استعارها، عسى أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يصاب بشلل ارتجافي قاهر وأن تُشل جميع أطرافه، عسى أن يصرخ عالياً طالباً الرحمة وعسى ألاّ تنقطع آلامه إلى أن يتحول إلى رمّة متفسخة، وأن تعشش الديدان في أحشائه مثل دود الموتى الذي لا يفنى. وعندما يمثل أمام يوم الدين لتلتهمْه نار جهنم إلى الأبد”.
وورد أن في بعض مكتبات الكاتدرائيات في عصور متأخرة، عمد القيّمون عليها إلى شدّ مجلّداتها بالسلاسل خشية تعرضها للسرقة، فكان مرتادوها يضطرون إلى الوقوف لساعات طويلة أمام الرفوف لقراءة ما يشاؤون منها.
تستطيعون إبلاغ البوليس
يذكر (أنيس منصور) أن أستاذه المستشرق الألماني (باول كراوس)، الذي انتحر فيما بعد، كان يرى أن سرقة الكتب ليست بمثلبة، لذا فإنه كان يقوم باستلال الكتب النفيسة من مكتبة جامعة القاهرة، وينسلّ خارجاً، وبرغم أن أمين المكتبة اكتشف أمر اختفاء بعض الكتب حال مغادرة الأستاذ لها، وأنّه كاشفه بالأمر بعد أن زاره زيارة مداهمة في بيته، إلا أنه رفض إعادتها قائلاً: تستطيعون إبلاغ البوليس.
وفي اعتراف له منشور على الشبكة العنكبوتيّة تحت عنوان (أنا سارق كتب فاحذروني) يقول القصصيّ الفلسطيني (زياد خدّاش): “أسرق الكتب من مكتبات أصدقائي ولا أعتبر ذلك خللاً في أخلاقي أو مرضاً، بل منتهى الصحة والروعة والقوة وخفة الروح… أعتقد أن سارق الكتب لن يدخل النار فهو إنسان بسيط وفقير يريد فقط أن يمتع ذهنه، ويوسع من دوائر ذهنه وروحه “.
وذهب الشاعر الستيني (عبد القادر الجنابي) إلى أن يصف سرقاته للكتب من محال (أوروزدي باك) أيّام صعلكته وتروتسكيّته بأنها (تأميم) لها، ويذكر ذلك في عدة مواضع من كتاب مذكراته (تربية عبد القادر الجنابي)، إذ يقول أنّه خلال إقامته في لندن عمل مع رفيق له يدعى فارس على تأميم ما يقارب 600 كتاب في أسبوع واحد، وقد أرسلاها عن طريق البحر إلى بيروت. ظلت أشهراً مصدر عيش فارس خلال إقامته فيها، مفنّداً المقولة الإنكليزيّة المأثورة في أن (القارئ لا يسرق والسارق لا يقرأ)، والتي بموجبها للآن يعرضون الكتب في أكشاك مفتوحة للمشترين بلا رقيب.
وليس الجنابي هو الوحيد ممّن يعترفون كتابيّاً بالسرقة، فقد كرر الشيء نفسه صعلوك آخر هو الشاعر (حسين علي يونس) في مونولوغ ضمّنه مخطوطته الشعريّة (طرت فوق الزمن) يصف فيه نفسه أنّهُ “كان كذّاباً من أجل الكذب/ وسارق كتب/ كان تاجر سلاح وبقالاً/ وحين تورّط بقضية تزوير/ كان ذلك من أجل مد جسر العدالة”.
تولستوي وماركيز
وأستطيع الجزم أن النسبة الغالبة ممن أصابتهم لعنة القراءة، هم من محترفي سرقات الكتب، خاصّة في المعارض الكبرى التي تثير معروضاتها من جديد المطبوعات شهواتهم الفكرية، وقد سمعت الكثير من اعترافاتهم في هذا الصدد. ولا نغفلُ أن الكثير من الأدباء الكبار لمّحوا في مذكراتهم الشخصية إلى شيء من ذلك، مثل تولستوي وماركيز، لكنّ (جان جينيه) كان الأوفر شهرة من بينهم والأسوأ حظّاً، فقد دخل السجن في صباه إثر قيامه بسرقات عاديّات صغيرة، ثم دخلهُ بعدها لاحترافه سرقة الكتب الغالية واعتياشه على بيعها للأدباء، لكنّه يعاود (مهنته) تلك بعد انقضاء فترة حكمه القصيرة وإطلاق سراحه، فيلقى عليه القبض متلبّساً بسرقة نسخة نادرة من أشعار (فرلين) ويحكم بالمؤبد، وقصة دفاع (جان كوكتو) عنه مشهورة، إذ خُفض الحكم بسببه إلى ثلاثة شهور، يخرج بعدها ويعاود الكرّة بالجرم نفسه.
ولم تقتصر سرقات الكتب على المثقّفين والأدباء، فالكثير من طلبة الدكتوراه لا زالوا يلجأون إلى ذلك لافتقارهم إلى الأموال اللازمة لشراء الكتب العلمية باهظة الأثمان التي تشترطها أطاريحهم.