المترجمة والأكاديمية خالدة حامد هاجرتُ عبر الترجمة إلى عوالم غريبة

حوار علي السومري/

مترجمة وأستاذة في جامعة بغداد، تؤمن بأن الترجمة ضيافة بين اللغات وليست خيانة، كما توصف أحياناً، وأن الشعر أقرب إلى روحها وأكثر لذة، لما فيه من تحديات اثناء ترجمته. حصلت خلال مسيرتها الإبداعية على جوائز عدة بينها جائزة المراة العراقية المتميزة في مهرجان العنقاء الذهبية الدولي الرحال لثلاث سنوات (من 2015- 2018)، وجائزة افضل كتاب مترجم في العراق عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مترجم بمناسبة يوم العلم 2017، وجائزة الإبداع العراقي في حقل الترجمة عن وزارة الثقافة 2021.
إنها الكاتبة والمترجمة والأكاديمية خالدة حامد، مدير تحرير مجلة (الشعرية)، التي تصدر عن دار الشعرية، عضو هيئة تحرير مجلة (براءات) الشعرية، التي تصدر عن دار المتوسط، إيطاليا، وهيئة تحرير مجلة كلية التربية للبنات، التي تصدر عن كلية التربية للبنات/ جامعة بغداد، والهيئة الاستشارية لمجلة الثقافة الأجنبية، وعضو لجنة تحكيم جائزة الرافدين للكتاب الأول.
كما نشرت (حامد) عشرات المقالات والدراسات المترجمة في الصحف والمجلات الثقافية العراقية والعربية، ومن أجل تسليط الضوء على مشروعها الثقافي، كان لنا معها هذا الحوار…
* لماذا اخترتِ الترجمة من بين كل الفنون الإبداعية الأخرى؟
ــأولاً لأني خريجة قسم الترجمة في الجامعة المستنصرية، وثانياً لأني وجدتُ في الترجمة فن الاكتشاف عبر الارتحال إلى أماكن وثقافات غريبة يكون للاغتراب والهجرة فيها طعم من نوع آخر؛ إنها تحليق فوق سماوات شاهقة في رحلة من الظُلمة إلى النور، من المجهول إلى المعلوم، من الغريب إلى المألوف عبر التوغل في المجاهيل واكتشاف أسرارها على نحو يمنح المترجم شعوراً بدهشة لقاء “النص” والتعرّف عليه قبل الجميع، تماماً مثل مكتشفٍ يطلع عليه فجر يوم جديد فيتذوق حلاوة الصبح ويستمع لأنفاسه قبل أن يفسدها الآخرون.
ولعل المتعة الكبرى التي تقدمها الترجمة هي التماهي بالنص والانتقال إلى عالمه والاكتواء بناره، فيشعر المترجم بما شعر به الكاتب ويعيش لحظات “خلق” النص شيئاً فشيئاً حتى يتحوّل الأمر في النهاية إلى صداقة من نوع خاص بين الاثنين: الكاتب والمترجم.
وليس من قبيل المغالاة القول إني اخترتُ الترجمة كمهنة لأنها توافق مزاجي النفسي تماماً إلى حدّ أني صرتُ شغوفة بها حتى أضحت وسيلتي للتواصل مع الكون.
الشعر أقرب إلى الروح
*ترجمتِ كتباً في حقول مختلفة من الأدب: الشعر، النقد، الفلسفة، وغيرها.. هل اتّبعتِ ذات المنهج في هذه التراجم؟
وما الحقل الأقرب إلى روح الكاتبة فيكِ؟
ـ أشعر أني محظوظة جداً لأني ترجمت في حقول مختلفة، وعلى الرغم من تنوعها واختلافها، فإن طريقتي في العمل واحدة؛ فأنا أقوم بالأمر نفسه في كل مرّة: أنجز المسودة الأولى التي أحاول فيها الإمساك بخيوط النص بلغته الأصل في محاولة مني لجمعها كلّها في قبضتي من دون أن يتسرب منها شيء، ثم أعمد في المسودة الثانية إلى قراءة ما ترجمته من دون أن أنظر إلى لغته الأصل، وفي المحاولة الثالثة أكتب مسودة أخرى أقوم فيها بمطابقة كل جملة ترجمتها بكل جملة في النص الأصل وأقارن بينهما للتأكد من أنني لم أجنح هنا أو أتيه هناك، بل أسيرُ على هُداه وفي ضيافته حتى يتحول لسكنٍ تستقرّ فيه كلماتي التي أعيد قراءتها المرّة تلو المرّة بعد أن أطبعها على الورق، لا على جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وأنا أدون عليها الكثير من الملاحظات لأعود إليها في اليوم التالي وأستعرضها في ذهني المرّة تلو الأخرى حتى أرضى، هذه العملية لا تتغير.
أما عن الحقل الأقرب فهو ترجمة الشعر بلا شك، لأن التحديات فيه أكثر واللذة أكبر، وما مِن أحد يغفل عن أهمية ترجمة الأدب، فعصر يزدهر فيه الأدب هو عصر تزدهر فيه الترجمة بلا شك، مثلما يقول الشاعر عزرا باوند، لهذا فإن متعتي الكبرى أجدُها في النص الشعري بسبب غزارة صوره وثرائه من جهة، وتحدياته وصعوباته من جهةٍ أخرى، هنا تتحوّل ترجمة الشعر إلى ما يشبه التحدي الذي تتصاعد شدّته في اللحظة التي يتوجب عليّ فيها الانسلاخ من النص الأصل لأعود من جديد إلى لغتي، أحملُ معي المولود الجديد، القصيدة. هنا تحديداً تتحول الترجمة إلى عملية إعادة كتابة، أو إعادة خلق، كما يحلو للبعض تسميتها.
وبالمناسبة، لا يمكنني وصف نفسي بالكاتبة، لأن هذا الادعاء أوقع الكثير من المترجمين في فخ التحليق في مديات شاهقة فوق النص حدّ الوصول إلى موضع يغدو فيه النص المترجم خالياً من ملامحه الأصلية ويتحوّل إلى نسخة مقلّدة عن الكاتب نفسه.
تهمة مجافية للحقيقة
* هل تتفقين مع من يقول بخيانة الترجمة؟
ــ هذه تُهمة مجافية للحقيقة ولا معنى لها، رافقت الترجمة لزمن طويل وكانت سبباً في إثارة شُبهة عدم الثقة بما يقوم به المترجمون، كما أنها مُجحفة جداً لأنها تنتقص من جهود جبارة بذلها المترجمون على مرّ التاريخ، تمكنوا فيها من تشييد جسور التواصل بين مختلف اللغات والثقافات. ما عاد لمفردة “خيانة” مكان في نظرية الترجمة الحديثة بعد أن أضحت الترجمة “ضيافة” بين اللغات، مثلما يقول الفيلسوف الكبير بول ريكور. الخيانة تتحقق عند الحديث عن ترجمات سيئة أخفقت في تحقيق شرط النقل الإبداعي الخلاق من اللغة المنقول منها إلى اللغة المنقول إليها على نحوٍ تسبب في ضياع النص وخسارته أو تشويهه، أو عندما يتوقف المترجم عند عتبة النص من دون أن يُفلِح في دعوته لمضيف اللغة المنقول إليها فيتركه عند الباب غريباً، منبوذاً مشوهاً لا يحملُ شيئاً من سمات اللغة التي جاء منها ولا اللغة التي وفدَ إليها. حينها فقط ستتحقق الخيانة عند ولادة نصٍ أبكم لا يُحسن التعبير عن نفسه.
لغة التخاطب العالمي
*لنتحدث عن الدرس الأكاديمي، أنتِ أستاذة جامعية، كيف تعلِّمين الترجمة للمبتدئين؟ وكيف ترين إقبال الطلبة على دراسة اللغة الإنگليزية؟
ــ أبدأ من الشطر الثاني من سؤالك، فقد لاحظتُ في الآونة الأخيرة إقبالاً شديداً على قسم اللغة الإنكليزية في كليتنا، كلية التربية للبنات / جامعة بغداد لما يتسِم به أولاً من سمعة أكاديمية مرموقة، تكوّنت بفعل كادر تدريسي ممتاز، ولأن الطالبة صارت تدرك تماماً أهمية اللغة الإنكليزية في عصرنا الحديث كلغة للتخاطب العالمي وأداة للتواصل والاتصال في عالم أضحى أشبه بقرية صغيرة يجري فيه تسيير أمور المال والأعمال والعلوم والتكنولوجيا بهذه اللغة.
أما عن الشطر الأول من سؤالك، فالجواب هو أن الطريقة المثلى لتعلّم الترجمة هي أن “نُترجم”، هذا ما أنصح به طالباتي، ولأن الكثيرين ممن لا علاقة لهم بالترجمة يظنون أنها لا تعدو سوى أنها عملية تقنية سهلة يتم فيها إبدال الكلمات في لغة ما بما يقابلها من كلمات في اللغة الأخرى، لهذا تجدني أركز على ضرورة تعريف طالباتي بحقيقة أن الترجمة تعني نقل المعنى لا الكلمات. أبتعد كثيراً في صفوفي عن التنظير وأركز على الجانب العملي. “النص” هو الميدان الذي يتيح للطالبة أن تختبر قابليتها على الفهم ومحاورة الكلمات للوصول إلى المعنى. العملية أشبه بتعلم الكتابة في المراحل الابتدائية؛ نبدأ أولاً بنصٍّ بسيط لا إبهام فيه ولا غموض ونتدرج شيئاً فشيئاً حتى نصل إلى مرحلة النصوص المعقدة. الدرس دوماً يعتمد أسلوب المناقشة والعصف الذهني: لماذا اخترنا هذه المفردة، لا تلك، في طريق الوصول إلى المعنى، ما القصد الذي أراده المؤلف، هل ثمّة معنىً مضمر في النص يحتاج منا الغوص عميقاً بحثاً عنه؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي تمنح الطالبة القدرة على فك شفرة النص الأصل بدقّة، والقدرة على إعادة ترميز النص في اللغة الهدف. ولا شكّ في أن واحداً من شروط اكتساب أية مهارة جديدة هو المِران والممارسة.
الخطاب الإعلامي
* ما جديد خالدة حامد؟
-انتهيتُ مؤخراً من ترجمة كتاب عنوانه “التضليل الإعلامي لتنظيم الدولة”، وهو من الكتب المهمة، لأنه يتصدى لموضوع الإرهاب من زاوية الطب النفسي الثقافي. يستمد هذا الكتاب أهميته في كونه الأول في حقل الطب النفسي الثقافي، يعمد فيه مؤلف الكتاب المتخصص بالطب النفسي الثقافي إلى تحليل بارع لأساليب الإقناع التي يُوظفها تنظيم الدولة عبر تحليل خِطابه الإعلامي، وسيصدر عن دار المأمون.