علاء حميد /
يبقى البحث والدراسة لغاية الآن غير مكتملين عن مرحلة ما قبل 2003، ربما لتعدد الأسباب التي أعاقت هذا الاكتمال؛ فنحن لغاية الآن لم نحسم كيف نفسر أحداثها والمجريات التي عاشها المجتمع العراقي.
ويأتي في مقدمة أسباب تأخير فهم وتفسير ما جرى، ما فعلته الدكتاتورية والاختلاف شبه الملموس بين البعض من فئات المجتمع حول تفسير سلوك السلطة المستبدة. ومع هذا فإننا أمام مرحلة باتت تؤثر في حياة العراقيين بعد التغيير الذي حصل في النظام السياسي، وأصبحت تحضر مع كل أزمة تحصل، ولهذا تأتي محاولة الكاتب زهير الجزائري لتسليط الضوء بشكل مباشر على مرحلة البعث 1968-2003. عمل الجزائري على متابعة تحولات رأس النظام لفترة غير قليلة مشاهدة وقراءة وتحليلاً للأدبيات التي عبرت عن البعث وسلطته.
قد يضعنا عنوان كتاب “المستبد، صناعة قائد، صناعة شعب”، الصادر العام 2006 عن معهد الدراسات الستراتيجية في بيروت، أمام ضرورة التساؤل على من تقع مسؤولية ظهور هذا المستبد، على الفرد الحاكم أم على المجتمع المنتج لهذا الفرد. لا يحضر هذا التساؤل إلا في الأزمات التي تتكرر ما بين فترة وأخرى. قام البعث في السابق باستثمار المشاعر العربية التي كانت تبحث عن الخلاص من الاستعمار وتخطي التردي المهيمن على المجتمعات العربية، فضلاً عن ذلك التلاعب بالمقولات والمفاهيم التي سوّقها لمن تأثر به، وهذا ما ظهر في نكسة 1967 والصراع الداخلي بين جناحي الحزب “سوريا والعراق” الذي وصل حد التصفية الجسدية والصراع على احتكار التعبير عن القومية العربية، الذي استمد تصوره لها من النموذج الألماني المعتمد على تحالف العسكر وملّاك الأراضي، كما يشير الجزائري في تحليله لكيفية بناء البعث لرؤيته للقومية.
يسلسل كتاب “المستبد” مراحل تبلور الخطوات التي عمل عليها رأس النظام لكي يتمكّن من الاستيلاء على قيادة البعث والسلطة، ولا سيما أنَّ البعث المنحل كان يعاني أزمة فكرية بدأت منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وتكمن أزمة البعث في مثالية الشعارات والمقولات مع سلوك حزبي يقوم على الانتهازية واستغلال التباين الحاصل في النظام العربي آنذاك. يؤكد الجزائري التباين الواضح بين المثالية والانتهازية من خلال التناقض المستمر بين سمو الخطاب العقائدي ومثاليته وبين الممارسة التي تصوغ المفاهيم وفق الواقع الحسي وتعتبر المنفعة الحسية مقياس صحة النظرية، يتأكد هذا التناقض في مرحلة التحكم بالسلطة منذ 1968- 2003، فمع ما قام به المؤسسون الأوائل الذين كانوا يعيشون في سوريا التي كانت ترزح آنذاك تحت الاحتلال الفرنسي بتقديم طلب العام 1945 لإجازة حزبهم مع طرح نظام داخلي يقوم على “وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون”، وهذا خلاف ما حصل لمواطني البلدان التي حكمها البعث إذ أعطى الأولوية للعربي القادم على حساب مواطن البلد نفسه، كما ادعى البعث حينما ذكر في مبادئ تأسيسه “صيانة حرية القول والنشر والاجتماع والاحتجاج والصحافة وفسح المجال لتأسيس النوادي والجمعيات والأحزاب”، هذا النص أحد الأدلة التي تثبت مدى الافتراق الكامل بين مثالية البعث وانتهازيته، إذ لم يتحقق مضمون هذا النص في أي من تجاربه في السلطة، فقد تلاشت هذه المفاهيم مع تأييد ثلاثة انقلابات عسكرية حدثت في سوريا الأعوام 1949، 1952 ، 1963، هذا التحول من حال الى آخر يكشف مزيداً من التناقض في ادعاء البعث لتمثيله من أفكار مميزة وذات أهمية.
وعلى الرغم من ادعاء البعث المنهار بتمثيل القومية، إلا أنه كان يخفي صراعه الداخلي بين أطراف قيادته، فهناك من مال إلى القطرية التي ركزت على أهمية تولي السلطة والتحكم بها، وانحاز البقية إلى القومية التي ترى أنها المدخل إلى تحقيق غاية البعث المقبور، مع وجود هذين التوجهين “القطري – القومي” انشغل البعث ومن يقوده في قضايا تثبيت السلطة واحتكارها، لذلك يشير الجزائري إلى “في لغة التخاطب السياسي ابتعدوا عن تلك الصياغات العقائدية الغائمة التي تذكر الناس بلغة 8 شباط الكريهة، لم يجدوا حاجة للعودة إلى أصول العقيدة أو التبشير بها”. ما زال أثر تجربة البعث المريرة في السلطة حاضرة في تلقي فهمها وتحليلها لأنها تعمقت بالاستبداد والهيمنة.
ترتيب البيت؟
يضع زهير الجزائري في كتابه عنواناً للفصل الثاني حول كيف رتب البعثيون بيتهم من أجل انتهاز الوصول إلى السلطة، ولهذا يذكر “عرف البعثيون العراقيون أنهم بحزب صغير لديه آلة رونيو واحدة، وفجأة وجد بين يديه هذا البلد الصعب”، كشف وصولهم إلى السلطة عن مدى عمق الصراع فيما بينهم واتخذوا الإزاحة والتصفية وسيلتين ناجزتين لتحقيق مكاسب كل طرف فيهم، فهناك العمل على إزاحة التحالف العسكري المتكون من “النايف والداوود” الذي أتاح وجوده اختراق الحرس الجمهوري وتولي إزاحة عبد الرحمن عارف بانقلاب عسكري، يؤكد الجزائري أن فكرة الانقلاب كانت حاضرة في ذهن جماعة البعث.
ومع حصول الانقلاب، تزايد السباق على السلطة، إذ بات كل طرف جمع ضباطه الموالين وينقلهم من المحافظات إلى بغداد لكي يحسم إمكانية فقدان السلطة، فبعد ثلاثة عشر يوماً من القيام بالانقلاب الأول، أي في 30 تموز، قام الانقلاب الثاني على حلفاء البارحة بالتنسيق مع الجهاز الصدامي الحزبي واللواء المدرع العاشر الذي يقوده العقيد سعدون غيدان، كان اللواء المدرع العاشر يطوق مقر رئيس الوزراء النايف حين دخلت عليه مجموعة مدنية مسلحة وأجبرته تحت تهديد السلاح على مغادرة القصر الجمهوري بطائرة معدة لنقله إلى ألمانيا.
نحن وتاريخ المرحلة السابقة
يربط المختصون في العلوم الاجتماعية بين فهم الماضي وقراءة الحاضر؛ لأنهما متداخلان بشكل كبير وهنا نجد حالنا في العراق أمام تحدي كيفية مراجعة الماضي الذي حوى كل هذه الازمات والنكسات التي أمست تعيق اكتشافنا لفهم جديد يعاكس ما هو مسيطر على أذهاننا من تصورات اجتماعية وثقافية، ولذلك نحن بحاجة الى إنتاج توثيق للمرحلة التي واجهنا فيها تحكم البعث وطغمته، لكي يوفر لنا المادة التي نستطيع من خلالها تحليل الماضي بشكل علمي لا يتخطى ما عانى منه العراقيون طوال مرحلة 35 عاما قهرا واستبدادا.