حاوره – زياد جسام/
روحهُ الترفة تُشبه السماوات المُكسَّرة التي لا تصلحُ إلا للشعر، هو حمد الذي كلما مرَّ بقربه قطار من الشعر المُنغم تمدد حديد السكك برأسه نائحاً، كأنما يستدعي عجلات الكوكب بأكملها لسحقِ بقاياه المُصابة، علّه يستريح من مخاوفه ونصوصه الشبيهة بجراحات حيَّة، وتأنٍّ بتحدٍ غريب على سطح مُدوّنة أسطورية عملاقة اسمها النواب.
العالمي بفرشاته وفنه، النحات (أحمد البحراني)، جسّد باشتغالاته الفنية النواب، قاطف الأنجم المبللة، وخصنا بحديث عن تمثال مختلف لشخصية المناضل الكبير الذي نحتهُ بروحه لا بإزميله وفرشاته، حباً وانغماساً بتلك الشخصية الاستثنائية، وقبل شهور معدودةٍ من الرحيل، إذ تتضح مشاعر النحات من خلال الإتقان المطلق في بناء العمل كشكل ومضمون وبطريقة تحاكي الروح قبل أن تحاكي ملامحه المجسدة..
ليل عشگ ومحنة
البحراني بهدوئه المكتنز، سرد لنا ظروف وفكرة إنجاز العمل، والسر الوجداني الذي دفعهُ بمجهود فردي لإنجازهِ على أكمل وجه، قائلاً: “لم تكلفني أية جهة بهذا العمل، علماً بأنني أنجزته حين كان النواب على قيد الحياة، وببساطة جاءت فكرة إنجاز عمل مجسم للشاعر الكبير لسببين: الأول هو أنني مثل معظم العراقيين والعرب من عشاق الشعر، وبالأخص شعر الراحل النواب، إذ أن تاريخ هذا الشاعر المناضل الكبير ونضاله جعلاه يستحق منا كل الاهتمام. إضافة إلى ذلك قربي من أحد أهم أصدقاء صبا وشباب الشاعر النواب، وهو الفنان علاء بشير، وتلك القصص والحكايات والحوادث التي يرويها لنا الدكتور الفنان علاء عن علاقته بالشاعر النواب، ما أثار فضولي في أن أجسّد تلك القصص في هذا المجسم.
قاطف النجوم المبللة
وحول رؤيته الفنية والعمل النحتي المجسّد بوضوحٍ لأهمية النواب كقامة عراقية كبيرة، يسترسل البحراني بالقول: “هناك العشرات من المبدعين تناولوا الراحل الكبير رسماً ونحتاً، ولكل فنان رؤيته الخاصة بالتأكيد، لكنني وجدت نفسي أمام إنسان استثنائي عاش حياة غير تقليدية مليئة بالأحزان والأحداث والتشرد، وهنا قررت أن يكون عمل مظفر النواب غير تقليدي، وكما أراه وأقرأه أنا من وجهة نظري، فكان هذا المجسم الذي أمامكم اليوم.
وعن تكوين العمل النحتي الخاص بالنواب، الذي تبدو فيه ملامحه وانحناءة رأسه، هناك شيء من الانكسار، مع أنه يمتلك جناحين.. قال البحراني: “كل شاعر حقيقي لم يتلون تجده هكذا، منحنٍ ومنكسر بعض الشيء، والانكسار وانحناء الرأس ليسا ضعفاً، بل إنهما تواضع وصدق، هكذا هم غالبية الشعراء المبدعين الحقيقين الذين لم يتنازلوا عن مبادئهم وإيمانهم بما لديهم من قضايا إنسانية وسياسية ومواقف عظيمة، أما الجناحان فوجودهما يوحي وكأن النواب يشاهد العالم من فوق بوصفه شاهداً على العصر الذي عاشه خلال عقود من الزمن، التي فيها ما فيها من حوادث وذكريات معروفة في تاريخ هذا الشاعر والمناضل الكبير.”
دمعة في ليل الأمهات
وعن دور الفنان في البحث ببواطن الشخصية المراد تجسيدها بروحيَّة الخلود، يؤكد البحراني:
“حجم هذا العمل ليس كبيراً جداً، إذ أنه بقياس ٧٠ سم، أنجز بمادة الطين، ثم تحول إلى مادة البرونز في محترفي الشخصي ببيروت، وسيكون عبارة عن ثلاث نسخ فقط، واحدة منها ستذهب إلى صديق ورفيق الشاعر الكبير النواب وهو الدكتور علاء بشير، الذي كان له دور كبير في إثارة فضولي لتنفيذ هذا المجسم، أما النسختان الأخريان فستكونان ضمن مجموعتي الشخصية.”
وختم البحراني حديثه عن تجسيد بعض الشخصيات العراقية المهمة قائلاً: “هنا يأتي دور الفنان في البحث خلف أو داخل الشخصية التي يريد تجسيدها رسماً أو نحتاً، وأنا شاهدت الكثير من مبدعينا ممن جسدوا شخصية النواب بطريقة احترافية جميلة جداً وواقعية عالية، لكنني لا أسعى إلى نقل صورته الواقعية، بل أردت الدخول في عمق وتاريخ هذا الشاعر الاستثنائي والمناضل الكبير.”