إياد السعيد/
كان سعيداً بحصوله على البكلوريوس للمرة الثالثة في تخصص الأنثروبولوجي، بعد البايولوجي والترجمة الإنكليزية. وكان سؤالي له: لماذا لم تكمل مسيرتك العلمية بعد تخصصك الأول لتحصل على الدكتوراه؟ فقال: “لن أكون سعيداً كسعادتي هذه، لأني أحب أن أطّلع على علوم ومعارف أكثر، وربما سأدخل في تخصص جديد أخطط له حالياً. بعدها أفكر في الحصول على الماجستير ثم الدكتوراه، لكي أكون راكزاً صلداً محيطاً بمعارف كثيرة تسندني، كما سأكون فخوراً بتحصيلي العلمي الحقيقي.” مفردة (الحقيقي) هذه دفعتني للخوض في هذا الموضوع المثير للجدل، المتكرر دوماً.
تحليل المعلومة
دعونا ندخل من بوابة قاموس أوكسفورد الذي حدد المعرفة بأنها (الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد، أو باكتساب المعلومات أو تجربة وتفسير نتائجها، والمعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتقاناتها). وحسب علم النفس فإنه يعرف الذاكرة بأنها (التقاط وتخزين المعلومة ثم استدعاء المخزون عند الحاجة).
ومن مزج التعريفين، يبدو أن الدماغ في نظام معالجة المعلومات ليس معالجاً مثالياً، فهو يتأثر بالعديد من العوامـــــل البيئيـــة والصحية والاجتماعية وغيرها، إذ لم نكد ندخل الألفيــــة الثالثة حتــــى برزت ظاهرة محلية شعرت بها أجيالنا الستينية والسبعينية، ويبدو أنها ظاهرة عالمية نتيجة الانفتاح الهائل على عالم واسع بوسائل التواصل الجديدة التي أتاحت الوصول والحصول على المعلومة مهما كانت درجة سريتها وأهميتها، فكانت ثمة انعكاسات جلية على اهتمام الفرد، أبرزها عدم إرهاق ذاكرته بتخزين معلومات يمكن استدعاؤها من موبايل جيبه بثوان ثم إرجاعها إلى خزانها الصغير الحامل لترليونات المعلومات BIG DATA، وما بقي للفرد هو خاصيته تصديق وتحليل هذه المعلومة الجاهزة وملاءمتها للمنطق والواقع والعلم ضمن محدودية الدماغ البشري. وقد أشار بعض مفكري القرن العشرين إلى أن (العصر الحالي هو عصر تحليل البيانات، فقد انتهى عصر الحفظ وتخزين المعلومات في الدماغ).. فعلا كنا حتى نهاية القرن العشرين نتباهى بمكتباتنا وثقافتنا الواسعة لنتفاخر بها في مدارسنا ومجالسنا.
متعة فكرية
ما شغل جمهور المثقفين في العراق أثناء موسم عرض برامج المسابقات المعلوماتية هو هبوط المستوى المعلوماتي في الثقافة العامة لذوي الشهادات العليا المشاركين في هذه البرامج، إذ إنهم أحدثوا صدمة للمشاهد بضحالة ما لديهم من ثقافة عامة، ولاسيما أن غالبية المشاهدين هم ممن كان يطبق قاعدة (خذ شيئاً من كل شيء)، وهم السواد الأعظم من ذوي التحصيل الأفقي الذين اكتفوا بشهادة جامعية أولية أو أكثر، وتنقلوا بين الكتب العلمية والأدبية من تاريخ وصحة وهندسة وجغرافية وكون وفيزياء وفلسفة.. الخ، وبذلك أسسوا موسوعات من خزين كبير في رؤوسهم كحجة ودليل ومنطق وإذا ما قورنوا بذوي التحصيل العمودي حاملي الشهادات العليا من الجيل الجديد، وتحديداً في العقدين الأخيرين، فسنرى الفرق واضحاً جداً، إلا في حالات فردية مميزة. وهذا بالطبع ناتج من أسباب عدة، أهمها هو أن المؤهل العلمي يحتم على حامله أن بتفقه ويتبحر في تخصصه الأكاديمي الدقيق لكي يعزز شهادته بمتابعة مستجدات هذا التخصص ومواكبة التطور الحاصل من أبحاث جديدة او رؤى ودراسات تحدد المتخصص وتحصره ضمن هذه الدائرة المغلقة تقريباً. مثال ذلك الطبيب المتخصص الذي يبحث في أحدث العلاجات والتقانة، وكذلك متخصص التاريخ الذي يبحث في كل معلومة تعزز منهجيته، إذ إن عليه أن يبحث في فلسفة التاريخ لكيلا يجمد في محطة واحدة، وهذا من حتميات تطوير قابلياته في ما يعزز ثقافته التخصصية وغزارة معلوماته، وهي ربما ظاهرة عامة مع معظم المتخصصين الأكاديميين. أما الثقافة المتنوعة في مجالات عدة، فإن من السهل الحصول عليها من وسائل الاتصال الحديثة بضغطة زر أو قراءة كتاب ورقي، أو من خلال الحاسوب والهاتف، فقد أضحت اليوم متعة وسياحة فكرية.
مراجع ورقية
قد يسأل أحدنا: ما الذي يميز حامل الشهادة العليا بين الأمس واليوم، ولماذا السابق هو أكثر ثقافة من ابن اليوم ولهما الشهادة والتخصص ذاته؟ الجواب يسير وهو أن الحصول على المعلومة التخصصية آنذاك كان يحتم الخوض والبحث في مراجع ورقية كثيرة حتى يصل الباحث إلى معلومته الدقيقة لبحثه أو ورقته العلمية، وبذلك فإنه سيمر على معلومات ومعارف أخرى متنوعة ومتناقضة لكي تبتعد وتقترب لديه من مبتغاه ليستدق فيها. وبهذا الكم المعلوماتي والعدد الكبير من المعارف ستتجمع لديه معارف من علوم أخرى نتيجة هذه الجولة. أما الآن فقد أصبحت المهمة أيسر والطريق للمعلومة أقصر فبمجرد كتابة المفردة ذاتها ستظهر لك معلومات وافية عنها، مع كافة المشابهات والمرادفات، عليك أن تلتقطها فقط وتضمها في حافظة بحثك، وهكذا تظهر لديك سلسلة جاهزة لا تحتاج إلا لربطها بالمنطق.
معركة الثقافة
من هذا نستنتج كيف كانت الثقافة العامة تتكون لدى الفرد وكيف ستكون في المستقبل، مع تطور الحصول على المعلومة، وهي ميزة العصر، فهي ليست قصوراً في الباحث الجديد، بل إنها ميل الباحث للوصول الى معلومة سريعة. أما ثقافته العامة فتتوقف على تنوع قراءاته واطلاعه حسب مراده، وهذا يعني أن ذا الشهادة العليا في الماضي كان مرغماً على الاطلاع وجمع المعلومات، أما الآن فهو حر إذا ما أراد أن يتوسع في ثقافته العامة، إذ لا ينتقص ذلك من علميته، لأن باستطاعته أن يحمل كل معلومات العالم في هاتفه بجيبه.
أخيراً نقول: “مهما كانت الخيارات نبيلة، فلابد من أن تتصادم فيما بينها في رؤوسنا ليتغلب أحدها، وهكذا هي معركة الثقافة العامة مع التخصص، كلاهما جميل ومحبب، بحيث لا يمكن إجبار الفرد والمجتمع على ثقافة (إقرأ).