حسن جوان /
يرفع حسن كريم عاتي راية اعتراضه على ظاهرة لوّحت صفحات التاريخ بسخام حرائقها، في بوح هادئ يشبه الأنين المشوب بحسرة، على موقف الحضارة من تكرار استهداف الكتاب عبر التاريخ، كفعل يمعن في الإساءة إلى روح الأمم المستباحة عبر الأفراد، والكِتاب الذي هو أساس التدوين في التاريخ الإنساني.
كتابُهُ “تخطيطات برماد الراوي”، الذي صدر عن سلسلة مطبوعات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب السنوية، وهو كتاب أعلن على غلافه الخارجي أنه كتاب نقدي يتصدره عنوانه الموحي برماد الراوي/ الناقد، ضمّ مجموعة من النقود الأدبية المتفرقة عبر الماضي والحاضر، صدّرها بتناول كتاب غير متوقع للقارئ المعاصر وهو كتاب “كليلة ودمنة”، وأعقبه بفصول أخر تحتوي على إضاءات في المسرح والقصة العراقية، ويختم أخيراً بالكاتبة الأميركية اللاتينية إيزابيل الليندي، وثمة خلاصة أخيرة يمكن فهمها على أنها الخيط الأخير الذي استعاض به عن مقدمة كتابه كبيان أدبي يطلق فيه صرخته.
انطلق عاتي في كتابه، الذي اختار أن يستهله بـ “كليلة ودمنة” عبر اعتماد منهج تأويلي لطبيعة الخطاب الذي يعتمد الحكمة واستلهام العبرة من أنسنة كائناته وتحليل رمزيات هذه الحوارات بعدما أورد إحصاءات وأرقام توثق المآلات التاريخية لمسيرة أحد كتب التراث في بواكير اجتراح هذا النمط من النثر العربي أو المترجم. فعمدَ إلى تحقيق وثائقي مختصر ليتحول إلى أمثلة تطبيقية لاحقة، يبدو أنه استلهمها من طبيعة الكتاب الذي يقترح منهج قراءته بذاته. أي أن الكتاب يتمنع على تناول منهجي مختلف قد يقترحه اختيار الناقد، ذلك أنه يطرح خطوطاً لا تقبل الفهم المباشر لحديث الحيوانات وقصص ابن آوى وسائر ما جاء في كليلة ودمنة من أسماء استعارية واضحة المقاصد.
في فصله اللاحق يتوجه الكاتب إلى تناول القصة القصيرة العراقية ويناقشها في فصل مطوّل يبدو أنه أطول فصول كتابه وأكثرها تكريساً بحكم تخصصه، لذا هو يغير بوصلة نقده وطبيعة منهجه التحليلي والإحصائي في الفصل الأول، نحو ورقة جديدة يأتلف منها كتابه الذي جمعه من فترات متباعدة، ليخرج هنا بحصيلة لافتة حول نقاش جدلية الفني والعياني أو بعبارة لافتة “الافتراضي الأدبي والعياني الواقعي” وجدل انتصار أحدهما على الآخر في بناء النص السردي داخل القصة.
ويخرج بحصائل تبدو حاسمة من وجهة نظره البحثية ويتوسع بعدها في شمول مباحث أخرى تقارب طبيعة القصة العراقية عبر سيرتها، متمثلاً بشواهد منتقاة تفي بسياقات رؤاه في هذا الباب. ويتلبث قليلاً عند تجربة مسرحية “الخاتم” للكاتب محيي الدين زنكنة فيناقش تبادل الأدوار وتنوع الدلالات في صفحات مختصرة ثم يقف عند نص تاريخي رافديني معروف وهو قصيدة “حوارية السيد والعبد”، تلك القصيدة المدهشة متعددة الأبعاد، ثم يعود إلى منهج نقدي احتمالي جديد متعدد التأويلات في هذا الفصل، ويضع ترقيمات متمايزة لفرز احتمالاته التأويلية ومقدماته التي تلاحق ما وراء غبار نص اجتماعي يصم علاقة معقدة مدونة على نص غائر في التاريخ.
هكذا يلقي حسن كريم بآخر فصوله وأكثرها ثقلاً، لنقف أخيراً على نظام فصوله المبعثرة التي تنتمي لنماذج من غير المفيد أن نفكر في ربطها اعتباطياً، إلا إذا بلغنا فصل إيزابيل الليندي وخاتمة الكتاب التي يعلن فيها رسالته.
في الليندي، يختار نص نقاشها عن مفهوم الوطن والمنفى، والمقاومة والمساومة، والآخر والحوار، وتبادل الاتهامات الأزلية بين من بقي ومن غادر، وتنازع الفضيلة وتأويلها لصالح هذا الطرف أو ذاك. نقاش مليء بالفلسفة والعناء والمحنة لأعظم روائية في أميركا اللاتينية، وريثة قارة من الدكتاتوريات التي تفكر باختراع وطن مسيّج بالمخيلة فحسب، مخيلة لا تسمح بولوج الدخلاء الذين يعكرون صفو الوطن المتخيل لكل شخص على حدة. إنه إذن وطن ذاتي وتجربة وطن على مقاس يخضع لشروط عاطفية وشخصية وثقافية، يمكن لنا أن نحيلها إلى محنتنا في الشرق المبعثر، نحن المبادرين إلى تحطيم الأوطان في مقابل اجتراح أو اختراع أوطان بديلة تتضخم فيها الذات ويطرد ويذاد من على أسوارها الحلمية الآخر المزعج والمختلف.
هنا ننتهي إلى مقولته الرئيسة في مشروع كتابه، التي يختم فيها بما يشبه البيان الأدبي أن “لا تقتلوا الكتب حرقاً”، وهو يرمي إلى الإنسان المكبّل بالإقصاء والكاتب المهدد بالرّجم والكِتاب الموعود بالمحرقة، وسيّان لديه حينذاك عندما تتنوع أداة اللجم، حتى لو كان الكتاب قطعة حرير مكتوبة فيها أبيات غزل أو موعظة أو سؤال في الوجود، هو – الكاتب – ينتهي إلى مقطع طويل يمكن أن نقتبس منه خلاصة بسيطة يقول فيها: أوقفوا قتل الكتب حرقاً لأن بها يقتل حق المفكر في التفكير وبها يقتل حق المتلقي في الاطلاع، وبها تنحر ذواتنا.. بلا حياء.