عادل الصويري /
في المجموعة الشعرية (تبغدد الحنظل) للشاعر صلاح حسن السيلاوي، ثمة سعي لتشعير اليوميات المريرة عبر النفاذ لتفاصيل بغداد في أحلك مراحلها الزمنية. فمنذ العتبة الأولى للعنوان؛ تتأكد للقارئ قصدية الشاعر السيلاوي في توثيق مرحلةٍ زمنيةٍ بسط الرمادُ أجنحتَهُ عليها.
والسعي التوثيقي شعرياً ليس بالجديد على مشهد الشعر العراقي، أو اشتغالات الشعراء العراقيين، غير أن المختلف في هذه المجموعة هو الآليات التي اعتمدها الشاعر لتشعير تلك المرحلة. فالنصوص التي تلتحم بالتفاصيل اليومية، تقف اليوم في طليعة اهتمامات شعراء النص النثري وكتابه.
تبقى علاقة الشاعر بمحيطه الزمكاني من أساسيات اشتغاله على منجزه لما سيتركه هذا المحيط من آثار تعكس الوعي الجمالي الذي يشكل التجربة المترابطة بعناصر النص شكلاً ومضموناً؛ لتعطي الصورة النفسية للشاعر ورؤيته للأشياء.
والشاعر صلاح السيلاوي من الشعراء الذين استقروا (شكلانياً) على “قصيدة النثر” بوصفها خياراً له ولتطلعاته، فنراه في هذه المجموعة قفز كلياً على المهيمنات الرمزية لشعراء النص النثري، وهي التي أخذت مساحات كبيرة على خريطة الشعرية العراقية في تلك الحقبة الحافلة بتغريب العبارات، واللغة المتفجرة برموزها.
لكن القفز الذي مارسه صلاح السيلاوي في مجموعته هذه كان محسوباً ومعدّاً له، بل اعتنى صلاح بقصديته اعتناء الخبير العارف بأسرار التعامل الشعري مع الحدث اليومي؛ كونه يعي الفوضى والمجانية التي تمارس ضجيجها على فعل الكتابة الحقيقية.
ومغادرة النسق الرمزي التسعيني لم يعق الشاعر في ممارسة غوايته التجريبية في التقاط المرارات اليومية الخاصة بمرحلة زمنية محددة، وسكبها على التراكيب التي يشكل بها جملته الشعرية التي لا تخالف السائد من الكلام فحسب، بل تخالف السائد من أسلوب النص اليومي الحالي، وبذلك يؤكد بصمةً متفردةً، تتميز بوضوح القصد وكثافة المعاني :
في البيوتِ المضاءةِ بِصورِ الراحلين
حيثُ تتزيَّنُ المرأةُ لحبيبِها بالأقفال،
والرجلُ يصدأُ
ثم يتكسرُ في حياتها كالمفاتيح.
مثلَ أنبياء نفتحُ أبواباً عميقةً في الكتب
ونركضُ بدمائنا التي لا تُرى/ نص (دماء تركض ولا تُرى) ص57
وكتاب (تبغدد الحنظل) هو في الحقيقة في طليعة الكتب التي تركض عليها دماء المتبغددين بحنظل القلق والخراب، قلق الحبيبات المتبرجات بأقفال انتظار، وخراب الرجال المتكسرين.
لقد احتلت بغداد ذهنية الشاعر حتى صارت مخزنَ مراراته الشعرية حتى مع غيابها عن عناوين كل النصوص في المجموعة وهو غيابٌ ذكي، فظلالها واضحة بشكل كبير على العناوين، وليس هناك من داعٍ لحضورها المباشر فيها، فكل البغداديات (حبيبات أسى) و (قمر عافية):
هذه المرأةُ مقمرة جداً
ولأن صورها في الذاكرة
بذور عواصف في أفئدة كلماتي
لا أتحدث عنها جهرة
لأن أنوثتها تفسر الماء/ نص (قمر العافية) ص46
وحتى تكتمل الصورة والقصدية لابد أن يكون كل البغداديين (ليسوا سوى أجنحة):
اللهُ يتصاعدُ فيهم
اللهُ في خفقاتِ عصافيرهم
فلماذا يقولون ثمّة من قتله في المدينة؟ / نص (ليسوا سوى أجنحة) ص22
نصوص المجموعة تتسلل بهدوء وانسيابية تاركة للقارئ حرية التجوال بين أروقة اللغة الشفيفة، فاتحة له أفق التأمل والتأويل من عدة زوايا ، فالشاعر يحاول لملمة المتشظي من أفكاره ليسكبها في النص الزاخر بالانتقالات بين العاطفة التي تخزنت في هيئة صور مأساوية لم تألفها حبيبته الأثيرة بغداد، وبين الرؤية التي لابد للشاعر من التصريح بها ليكون له موقفه الواضح والصريح من الأحداث، والذي يبقى متأرجحاً بقلق المبدع إزاء سريالية الأحداث:
لو تَمَرَّدتَ مثلي
لعرفتَ أن القطيعَ حكمةُ الراعي
يُثبِّتُ أركانها بخوفنا من الذئب،
لو تتلَبَّسُكَ وردةٌ
أو تتنفَّسُكَ سماءٌ ممطرةٌ،
لو تتكسَّرُ مع موج حزنٍ ساطعٍ
أو تشاركُ شجرةً إحساسَها
حين تأكلُ حشرةَ اخضرارِها،
لو تُجرِّبُ حزناً جميلاً
لتمرةٍ يُنَقِّرُ العصفورُ حلاوةَ جسدِها
لشعرتَ حينها بدمي يلهثُ على هذه السطور/ نص (دمي على هذه السطور) ص65
أراد صلاح السيلاوي أن يصرخ بكلِّ ما أوتي من قوة بوجه الخراب الملتمع في الأنياب الطائفية التي أرادت أن تفتك بجسد المدينة/ الحبيبة، لكنَّه أدرك أنَّ صراخه ــ على المستوى الفني ــ لابد أن يكون همساً، لأنه يكتب نصاً نثرياً بمواصفات لا يحسن فكَّ أسرارها غير القليلين وهو منهم. نصٌّ عالٍ في احتجاجه، خافت في نبرته، يشيح بوجهه عن متطلبات المنبرية، من أجل الالتصاق بتفاصيل البسطاء تشعيراً لمراراتهم ولو بالإيماء.