زياد جسام – تصوير: علي الغرباوي /
للديانة المسيحية والكنائس علاقة وطيدة بالفن التشكيلي عموماً، إذ تسمى الرسوم والمنحوتات الكنائسية بـ (الفن المقدس)، الذي هو عبارة عن لوحات فنية أو منحوتات يجري تعليقها أو رسمها على بعض جدران الكنائس باستخدام الإلهام الديني والزخارف التي تهدف إلى مخاطبة العقل وتحريك المشاعر الروحية.
هذا النوع من الفن يقتصر على الطقوس والممارسات الثقافية الدينية والجوانب العملية لمسار الإدراك الروحي ضمن تقاليد الفنان الدينية. لذلك نجد جميع الأعمال الفنية الموجودة في الكنائس، سواء أكانت رسماً، أم نحتاً، أم رسماً على الزجاج، أم جداريات بطريقة السيراميك، وغيرها.. تحمل أفكاراً دينية لها علاقة بالأنبياء والقديسين. ومن هذه الرسوم ما يسمى بـ (الأيقونة)، إذ يرسم السيد المسيح (ع) في مواقف مختلفة، مثل موقف شفاء الأعمى، أو العشاء الاخير، وغيرها، أو أحياناً برسم السيد المسيح واقفاً بحيث تبدو ملامحه مفصلة. وعادة ما تكون الأيقونة مرسومة بالذهب والألوان الطبيعية الخاصة، على اعتبار أن الشخصية المرسومة غير عادية، بل شخصية مقدسة. كما تكون رسوم الأيقونات منفذة بلغة بسيطة يقرأها الجميع دون تمييز، وهذا ينطبق على جميع الصور الدينية، مثل صورة المسيح والعذراء والرسل والقديسين والشهداء والملائكة وغير ذلك من الموضوعات التي وردت في الكتاب المقدس.
خامة الأيقونات
استُخدم الكثير من الخامات في تنفيذ الأيقونات الموجودة في الكنائس، سواء بالنقش البارز، أو النحت المجسم، أو الرسم بالألوان، من هذه الخامات الحجر الطبيعي والرخام والألوان المستخرجة من بعض النباتات، أو المصنّعة من المواد الطبيعية بدون أية مادة كيماوية، كما استخدم الخشب في نقش الأيقونات أيضاً.
وعند زياتنا لبعض الكنائس في بغداد، وجدناها تتزين بالعديد من اللوحات والمنحوتات والأيقونات التي حدثنا عنها القائمون على هذه الكنائس بتفاصيل عميقة، إذ وجدت هذه اللوحات والمنحوتات مع وجود الكنائس نفسها، أي أن الجداريات صممت مع تصميم البناية ونفذت معها، وفي غالب الأحيان تكون هذه اللوحات قد رسمت من قبل فنانين مسيحيين لديهم علاقة روحية بما يقومون به من نتاج إبداعي يحاكي قصصاً ذات تأثير روحي ويتعاطف معها الجميع.
وتعتبر الرسوم والمنحوتات جزءاً من التقليد الكنسي، مع أنها تقليد قديم جداً، إلا أنه يتطور عبر الأجيال في حدود روح التقليد، كما تعلن هذه الأعمال الفنية اتجاهات الكنيسة وأفكارها وتعاليمها، كما يجري إنتاج هذا النوع من الفن كمحاولة لتوضيح وتكملة وتصوير المبادئ المسيحية بشكل واضح ليترسخ في خيال المتلقي ويتعايش معه روحياً، ومن هذا المنطلق نجد أن العلاقة بين الفن والدين تعد واحدة من أبرز الظواهر الفكرية التي ثبتت تاريخياً من خلال تراكم القراءات البصرية لتشكل ضرورات ملحة في المجتمعات الإنسانية، على اعتبار أن الطروحات الدينية، وما تحمله من أفكار وصور وأحداث وفقاً لصيغ المعتقد الديني وتمثيلاته، منجز فني، وشواهد معرفية نُفذت بطرق تعبير مختلفة مع طبيعة التدين والاتصال الفكري الديني المحرك لها.
كنيسة الصعود
فقد تحدث لنا (أبونا فادي)، راعي كنيسة الصعود في بغداد، عن هذا الموضوع تحديداً، أثناء وقوفنا وسط الكنيسة وأمام أيقوناتها الفنية المقدسة، قائلاً إن “أهم الأعمال الفنية الموجودة في كنيسة الصعود، تعود للفنان العراقي الراحل (محمد غني حكمت)، الذي نفذها عند بناء الكنيسة عام 1992، إذ جرى تكليفه آنذاك بإنجاز أربع عشرة لوحة نحت بارز، التي تمثل قصة آلام المسيح، وما زالت هذه الجداريات جزءاً لا يتجزأ من جدران الكنيسة، التي صاغها الفنان حكمت بأسلوبه المميز، بالإضافة إلى إخراج هذه القصة الأليمة بطريقة جميلة جداً، حين أضاف إليها شيئاً من الواقع العراقي الذي كان يعيشه العراقيون في ذلك الحين، إذ وضع بعض اللمسات التي تقرب هذه الفكرة، مثل الأطفال وأشكال الشخوص، كما وضع شكله وشخصيته في الجدارية ما قبل الاخيرة، أي المرحلة 13 التي تمثل يسوع وهو ينزل من الصليب، إذ يقف باستقبال السيد المسيح معهم داخل المشهد، وقد وثق هذه الفكرة بكتابة نشرت في الإعلام وقال (وضعت نفسي في هذه القصة للتبريك).”
كذلك تحدث أبونا فادي عن أهمية الفن المقدس وعلاقته الروحية بالديانة المسيحية تحديداً وقال:
“لا شك في أن معطيات الفن المسيحي تستقطب الرؤى المعرفية والدينية لشواهد بصرية، تؤكد الخطاب الديني بشكل صريح، وفن الأيقونة خصوصاً، فلهذا الفن صدى واضح في مجمل ما أنتج من رسوم عبر الحقب الممتدة، وقد أسهم في ترسيخ الفكر المسيحي بمزيد من الاستبصار والتمعن والبحث عن المضامين الإنسانية عبر هذه المدونات البصرية.” كما تحدث عن الموضوعات التي جرى رسمها قائلاً: “إنها وثقت موضوعات السيد المسيح (ع) والسيدة العذراء، باعتبارهما نموذجين نتقصى من خلالهما صور الأيقونات ونقلها من المستوى الحسي إلى المستوى الروحي.” وذكر لوحة من ضمن لوحات الكنيسة وهي (لوحة العماد)، وتمثل هذه اللوحة يسوعاً وهو يتعمد في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وقد وضع قبالة هذه اللوحة قدر المعمودية الذي يعمد فيه الأطفال حديثو الولادة.. الفنان الذي نفذ لوحة العماد هو الراحل (ماهر حربي)، كما كانت هناك لوحتان أخريان كبيرتان، واحدة منهما تمثل صعود المسيح ( ع) إلى السماء، وهذه اللوحة تحديداً ترمز الى اسم الكنيسة نفسها، حيث يظهر السيد المسيح وكأنه يصعد إلى السماوات، والشعب في فلسطين رافعين رؤوسهم ينظرون إليه، وقد وضع الفنان أشخاصاً حقيقيين ممن لهم علاقة بالكنيسة نفسها، ومنهم رئيس الكنيسة والقس (أبونا جميل)، كما وضع أشكال الأشخاص الذين تبرعوا لبناء الكنيسة في وقتها. كما وضع الفنان (نجيب الصائغ) نفسه بين هؤلاء الأشخاص داخل اللوحة. أما اللوحة الأخرى فقد حملت عنوان خروج السيد المسيح (ع) من القبر، وهي أيضاً بريشة الفنان نجيب الصائغ .. أما الفنان (بسام صبري) فقد نفذ لوحتين تعتبران أيقونتين، مثل فيهما شخصية السيد المسيح (ع) وخلفه هالة سماوية، نفذهما بالذهب والألوان الطبيعية. وأيضا كانت في الكنيسة قبة كبيرة رسمت فيها لوحة من السيراميك أو الفسيفساء نفذها الفنان (شنياز عبدالله).”
وأشار أبونا فادي إلى أن للأيقونات الفنية ضرورة في جميع الكنائس، لأنها تقودنا إلى الصلاة، فهي تأخذ المتلقي إلى عالم آخر يقترب من الروح والفكر اللاهوتي..
من خلال ما شاهدناه وسمعناه عن هذه الأيقونات الفنية المقدسة، أدركنا أنها على صلةٍ باستعارة الموروث المسيحي المكتسب عبر الحقب الزمنية التي مرت، وأنها عبارة عن موضوعات ذات صبغة دينية من واقع المعتقدات التي شكلت قدسية ما هو مرتبط بالله سبحانه وتعالى، بالإضافة الى ترسيخ الملمح الديني من زاوية نظر إنسانية.