عواد ناصر/
تمثلت أول صدمة واجهها الطفل الأفريقي الأمريكي جيمس بالدوين (1924- 1987) بأنه بلا أب. إذ انفصل الوالدان عن بعضهما، وهو صغير، وهذا وحده يمكن أن يشكل لأي طفل عقدة نفسية قد تستمر إلى آخر حياته. طفل يرى يومياً الآباء وهم يأتون بأبنائهم إلى المدرسة أو يأخذونهم إلى البيت.
لكن الأم (إيما جوينس) تزوجت ثانية من رجل دين (قس) فقير الحال فخابت آمال الأم باحتمال تحسن أوضاع العائلة، كما ازدادت النزاعات والمشاكل بين زوج الأم والولد الذي تبناه هذا الزوج.
البداية مع كتابة القصص
بعد المدرسة التحق جيمس بالكنيسة أيضاً ليصبح قساً هو الآخر، لكنه اكتشف أن الحياة في الكنيسة لا تناسبه، حتى انتقل إلى إحدى القرى، في ضواحي نيويورك، كانت مشهورة بوجود الكثير من الفنانين والأدباء، وهنا بدأ بكتابة القصص والمقالات.
كان المواطنون السود خلال ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، يعانون أقسى أنواع التمييز العنصري، قبل أن تتحسن أحوالهم لاحقاً إثر إقرار قانون الأحوال المدنية الذي اعترف بهم وبحقوقهم كمواطنين متساوين.
وكما يبدو أن الكاتب الشاب يزداد طموحاً لحياة أكثر حرية وانفتاحاً، على وفق مداركه ورغباته، فيقرر الهجرة إلى باريس، عاصمة النور.
عن هذه التجربة يقول بالدوين، في حوار طويل معه: “دخلت باريس وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، وحيداً ومفلساً، لم يكن معي من المال أكثر من أربعين دولاراً، ولا أعرف من اللغة الفرنسية كلمة واحدة. نفدت ثروتي كلها، الأربعون دولاراً، بعد ثلاثة أيام، ووجدت نفسي في الشارع بلا أي عون، وعليّ تدبير مكان للمبيت وبعض الطعام. مرضت بسبب الجوع والبرد حتى رعتني سيدة كورسيكية طيبة هي صاحبة فندق. فتماثلت للشفاء.
بعض العزاء
يضيف بالدوين “لو بقيت في نيويورك لكان مصيري أسوأ مما هو الآن، وفي هذا بعض العزاء، فَلَو لم أهاجر لواجهت احتمالين: إما أن أُقتل أو أقتل لأدخل السجن”.
وجد بالدوين في الكتابة وطناً بديلاً أخلص له، أو أخلص الاثنان لبعضهما بعضاً: الوطن والكاتب.
لم تكسره صعوبة الحياة ومشقاتها، بل صقلته أكثر فأكثر ليواصل الإقامة في وطنه الجديد (الكتابة) بمزيد من العناد والصلابة، ويصف وطنه الثالث هذا، بعد نيويورك وباريس، بأنه ملاذه الأخير.
يواظب الكاتب الشاب على الاطلاع والمعرفة، وتشكل الكتب والحياة مصدرين أساسيين للثقافة والإبداع، مثل وقود لا ينضب، لكن ذكرى أقرب أصدقائه الذي انتحر بأن ألقى بنفسه في النهر، من على جسر جورج واشنطن في نيويورك، لم تبرح ذاكرته.
ويعترف بقوله: “كنت في مفترق طرق: إما أن أصبح كاتباً أو لا شيء آخر”.
إلى جانب كونه أصبح كاتباً مرموقاً، وعضواً محترماً في نادي كبار الكتّاب والمشاهير، فإنه لم يتخل عن مهمته كناشط في حركة الحقوق المدنية، لمحو الفروق بين اللونين الأسود والأبيض في المجتمع الأمريكي والعالم، وصار واحداً من أفضل الكتّاب السود
وبلغ ذروة شهرته، مطلع الستينات، بسبب مقالاته وقصصه، وأشهرها “غرفة جيوفاني” و”بلاد أخرى”.