علاء حميد /
يعبِّر نموذج الشاعر التونسي (أولاد أحمد) عن حالة مختلفة، كونه ينطلق من الموقف والانحياز في ما يخص المجتمع والسياسة، ولهذا برز أحمد من خلال أحداث الثورة التونسية عام 2011، ليكون أحد أصواتها التي تخاطب الناس في تونس وخارجها. في كتابه “حالات الطريق” يضع كثيراً ممّا يريد قوله ضد السلطة وطغيانها.
فالكتاب صادر في طبعته الأولى عام 2013 عن دار منشورات أولاد أحمد بتونس، يأخذنا في ثنايا كتابه في رحلة عن الحالة التونسية وكيف أفضت إلى مرحلة التغيير بعد سبات دام طويلاً. يسترجع أحمد التاريخ وخفاياه التي ننساها حين ننشغل بالحاضر وأزماته، إذ يعود بنا إلى تاريخ قرطاج الذي هو عنوان لتونس وأحوالها في الماضي، لكي يصل بين حضور الموت والتصدي لمن يصنعه من طغاة ومستبدين، فمنذ أن وعى تاريخ بلاده وهو يعمل ليكون شاعرها وناثرها حتى يواجه مع شعبه هذا الموت والاستبداد.
في الوقت نفسه، يؤشر نحو تقاعس كثير من الشعراء والكتاب عن أداء هذه المهمة، لأنهم يقعون فريسة لاستدراج السلطان ونعَمِه التي يغدق بها عليهم، لذلك يستخدم مصطلح علي شريعتي “الاستحمار”، الذي صاغه ليفسر به تقبل المجمتعات باستغفالها من قبل السلطات ومن يعمل معها. ويعدد أولاد أحمد أنواع الاستحمار في المجتمعات العربية، ومنها المجتمع التونسي؛ من استحمار الاستعمار العثماني إلى الاستعمار الفرنسي والسلطة وزبانيتها. كما يصل به الحال في رصد الاستحمار حتى في الثقافة ومنتجاتها، إذ يقارن بين رداءة الشعر فيما يقدم للمجتمع من نصوص، وأحزاب المعارضة فيما تقدمه في توعية الناس، من طرح الرديء وغير المجدي في تغيير حال المجتمع.
يعلل أولاد أحمد تزايد الازدواج في الموقف بسبب الكره الخفي والولاء الظاهري للسلطة، لأن ما جرى في تونس يحيل إلى تناقض صارخ مؤداه أن السلطة تنظر إلى الشعب وكأنه طارئ لا يمتلك أصالة وجوده، ما يعني أن السلطة لها اشتراطها على من تحكم، ولهذا يستعيد أولاد أحمد أبو القاسم الشابي وبيرم التونسي في تحدي اليأس، وعبر نموذج الشابي والتونسي يعود بنا إلى نشأته وكيف كانت الحياة في الجنوب التونسي، يشير إلى أن اسمه “محمد الصغير أولاد أحمد بن علي” اسم محاط بجميع أنواع السلط الروحية والقبلية والسياسية والبوليسية في بلاده، وكأنه ينازل الموت باستعارة مقولة الشاعر التركي ناظم حكمت “أن أعيش يوماً إضافياً كيداً للعدو,” بمنازلته هذه يسعى لأن يكون سيد نفسه ومصيره، وبذلك تصبح الحرية شرطاً لا يمكن التنازل عنه، وأن الحياة الكريمة تمسي أهم من الشعر ذاته إذ لم يكن هناك خيار.
وبعد أن فهم أولاد أحمد مساره هذا بات يعمل على تنفيذه، ومثل بقية الآخرين في الوطن العربي تخيّر بين جملة حلول بعيداً عن العنف والسلاح ظناً منه أنها لا تزعج أحداً:
أقلاماً ملونة
أوراقاً بيضاء
وجيشاً من العواطف الحارة
وعرف أولاد أحمد أنه مطلوب منه الدفع بالفكرة والمعاني وبالناس من أجل المطالبة بحقوقهم بشكل مباشر :
الريح آتية
وبيوتهم قش
والكفّ عالية
وزجاجهم هش
لا تحزنوا أبداً
يا إخوتي أبداً
إن شردوا طيراً
يمضي له العش
تبقى محنة السلطة شاخصة في ذهن أولاد أحمد، وكأنها المدار الذي لأجله يكتب الشعر لعله يكسر قيده وطغيانه، فالسلطة عند العرب هي “أمور دُبرت بليل” وهي آلية الوصول إلى السلطة عندهم. بالانتباه إلى محنة السلطة يعرض أمامنا سيرته معها، التي تتجلى عنده في الحاكم المستبد الذي يريد امتلاك الأرواح والأبدان، فبعد مصادرة مجموعته الشعرية الأولى “نشيد الأيام الستة” 1984-1988، وإتلاف ثلاثة آلاف نسخة منها بالآت حديدية، كما يذكر، جلبت خصيصاً لهذا الأمر، ثم إيداعه السجن لفترات قصيرة متباعدة، وطرده من العمل بعدها مدة خمس سنوات 1987-1992، ولأسباب يقول أولاد أحمد لا يمكنها أن تجعل منه بطلاً في كل الأحوال.
بعد خروجه من السجن بادر إلى تأسيس بيت الشعر التونسي 1993-1997 ليخرج منه إلى ما يشبه الإقامة الجبرية بسبب اختلافه مع الدولة في إدارة هذه المؤسسة. هكذا هي حالات الطريق عنده محصورة بين آلام وتشرد، وشهرة بطبيعة الحال. التفت إلى أن الورقة البيضاء ما هي إلا صورة لزنزانة بمقاييس مصغرة، وإلى أن القلم حارس السجن ذاته. جمع أولاد أحمد في حالات طريقه بين تحمل المشقة والأذى بجسده “سجناً وتشرداً” وبين شعره وغاياته، وهذا مصداق لما قالت العرب “هذا الشاعر ينحت من جسده وسيموت صغيرا،” حين يكون الشاعر صادقاً في قوله وسلوكه، وهو قول يتوافق مع قول آخر للمتنبي وإن كان قد قيل في سياق آخر :
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك.. لم ترني
لم لا يكون الجسد قلماً ؟
والأرض – بما فيها ومن عليها- ورقة بيضاء؟
تحول أولاد أحمد إلى أحد أصوات الثورة التونسية عام 2011، وهذا وضعه أمام تحدي المواجهة مع قوى وتوجهات لم تكن تتقبل موقفه وشعره، إذ وصل الأمر إلى تخريب قبره بعد موته وكأن المواجهة معه لم تنتهِ حتى بعد غيابه.