اية منصور/
لا يستطيع أحد أن يسلبك شيئاً أحببته بصدق. سيتوقف الزمن عندك. ويساعدك بطقوسه المناسبة لك، حتى يسلبك الموت ذلك الشيء، أو تنتهي لحظتك الشغوفة هذه.
لا موعد لعمر محدد في الكتابة، إذ ـ وكما يرى بودلير ـ إن النتاج الإبداعي هو لحظة فقط، و قد تمتد لسنة واحد يعيش خلالها الكاتب نشوته بالاستماع إلى روحه وهي تنتقل من سطر لآخر، أو للحظات، أو حتى آخر العمر، لكنها، قد تُسرق بطريقة غريبة.
فتنتهي وينتهي معها حلم الكتابة. وتحرمنا إبداعات جديدة.
كتّاب توقفوا عن الكتابة، لظروف قاهرة، انقضى عمرهم الإبداعي وهم في نشوة نضجهم الأدبي.
رامبو.. برق شعري انطفأ
ولعل الزمن توقف عند رامبو، تحديداً عند مراهقته وشبابه، لتحصر لحظته الإبداعية في خمس سنوات فقط، ثم يتوقف حتى الأبد! ويبدو أن نتاج السنوات الخمس أسفرتْ عن كتابين هما “إشراقات” و”فصل في الجحيم”، إضافة لمخطوط آخر احرقته زوجة فيرلين بعنوان “صيد روحي”، سنوات قد امتدت لتكون أجيالاً من أجل فهم قصائد هذا الشاب الذي ولد لأم متسلطة وأب عسكري غير مرئيّ إلا عند العودة من الجبهات. كان الشابّ يعوّض هذا الخواء العائلي بالقراءة والكتابة، ليغوص داخل محيط لعالم جديد. وبالرغم من إن عمره الشعري لم يدم سوى خمس سنوات لكنه لخص حياة طائشة بأكملها. ولعل السبب الأرأس الذي دفع رامبو لترك حياة الشعر والتي وصفها فيما بعد بـ”الفترة الملعونة” هي رصاصتا فيرلين اللتان أصابتا كتفه، كانت حادثة إطلاق النار عليه من قبل “عشيقه” خطوة فاصلة لابتعاده عن الشعر والعودة إلى حياة خالية تماما من الكتابة، قضى عليها مبكراً السرطان بعد أن ترك له فسحة للسفر حول مدن ودول عديدة.
حسن مطلك.. بسالة أمام الموت
لكن الأمر يختلف كلياً عند الكاتب “حسن مطلك” برغم اجتماعه مع رامبو بحميمة الاندفاع الشبابي، إذ أن مطلك اختار لروحه طريقاً وعرة وقاسية لم يستطع أي أحد من مجايليه الخوض فيها: العمل مع مجموعة من الضباط للثورة ضد أشرس حاكم عرفه التأريخ هو الطاغية صدام. كانت النتيجة أن يرحل تاركاً روايتين هما “دابادا” و”قوة الضحك في أور”، مع عدد من القصص والرسومات. تركهن وتقدم نحو حبل المشنقة. حسن مطلك رحل ولم يسعفه الوقت ليرى منجزاته تأخذ ما تستحقّ من الاهتمام. ترك مهمة تجميع رواية “قوة الضحك في أور” لشقيقه الروائي محسن الرملي، وعديد القصص واللوحات، كان فناناً شاملاً، ويبدو أن البلاد التي ضيعته لم تكن وقتها تحبّ الفن.
لوركا… موت غامض كالشعر
تأخذنا هذه الحكاية إلى إسبانيا، عند الشاعر والكاتب المسرحي والعازف “فيديريكو غارثيا لوركا” ويبقى موته غامضاً، ولتظلّ أعماله الأدبية خالدة، فيما يمر طيف على محبيه كل ليلة بقصائده. ترك لوركا للعالم كتاب “القصائد” “شارع في نيويروك” “الأغاني الغجرية” “مرثية مصارع ثيران” ومسرحيات مثل “دراما العاطفة البدائية” و”بليسيا في الحديقة” و”الزفاف الدامي” وغيرها الكثير الكثير حتى أنه كان سيستمر بضخ الشعر والمسرحيات لنا لولا هذه الرصاصات. لقد ترك لوركا إرثاً هائلاً وبقي موته عصياً عن الفهم، من الذي يعرف من الذي قتله، شعره؟ أم ميوله السياسية؟ أم ميوله الجنسية؟ أم تلك المافيات التي كانت على خلاف دائم مع عائلته؟ شكوك كثيرة حول الرصاصات التي توجهت نحو صدر لوركا فيما يقف مزهواً، وهو ينتظر الموت. لكنها على أية حال, سحبت من الأرض شاعراً إلى الغياب ولم تترك له حتى جثة.
فروغ.. ولادة جديدة
وإذا كان مقتل لوركا غامضاً، فلم يكن الموت كذلك مع الشاعرة فروغ فرخزاد، كان واضحاً معها جداً للدرجة التي يتقرب منها بواسطة سيارة عابرة، لترمي بها إلى عالم آخر. ولدت الشاعرة فروغ في طهران، قصائدها كانت بمثابة حزن يسيل من عين العالم، جرجرت “حياتها الصعبة في قصائدها وكانت واضحة تفاصيل اليأس التي أحاطت بها إذ كانت تقول: “أحسّ أني خسرت عمري كله، كان عليَّ أن أعرف أقل بكثير من خبرة السبعة والعشرين عاماً، لعلّ السبب يكمن في أن حياتي لم تكن مضيئة”، هذه السوداوية التي تغلغلت في روح فروغ كانت واضحة تماماً في قصائدها، حتى بدأت بالسير بطريق خاصة بها، خاصة جداً. تتابع نشر دواوينها بطريقة سريعة وكأنها على دراية بمصيرها لتصدر “أسير” ثم “الجدار” وبعدها “عصيان” حتى نشرت “ولادة أخرى” والذي كان بمثابة ولادة حقاً، ولادة جديدة لعالم الشعر الفارسي، حزناً وتعاسة ومناجاة للحياة من قبل الإنسان, الوحيد في هذا العالم.
ضحكة في وجه الموت
ولأن الموت لا يأبه لأحد، فهو لا يأخذ من يتنبأ باقترابه، إنه قد يفعل ذلك حتى مع أكثر الأشخاص رغبة بالحياة. وفعل هذا الشيء الشنيع مع “ديلان توماس” الذي كان معروفاً بحبه الكبير للحياة، بمرحه وقصائده الدافئة بالحب. برغم العوز والفقر والديون، إلا إنه كان يستقبل الحياة بسخرية. ولد توماس في سوانزي، وواجه شاعر ويلز صعوبة بتقبله من قبل مجتمعه في بادئ الأمر لكتابته بالانكليزية فقط، إذ اعتبره نقاد ويلز الشاعر الجامح حدّ العقوق. برغم هذا، كان توماس متحمساً للشعر. وأصدر مجموعة “ثماني عشرة قصيدة” ثم “خمس وعشرون قصيدة” ثم “خارطة الحب” بعدها “مداحل ومنايا” وقبل وفاته بعام ـ وكأنه يتنبأ ويتهيأ لوفاته المبكرة والسريعة ـ أصدر ديواناً شاملاً بقصائده. ثم توجه إلى نيويورك ليموت فيها بعيداً عن مدينته! ولا أحد يعرف طرق هذا الموت، فلا أحد يعلم إذا ما كان الثمانية عشر قدحاً من الويسكي قد أسقطته في بئر الموت بسرعة، أم أن تلف الدماغ هو من أبتعد به بعيداً. كان عبثياً للغاية، مرتين صرف نقود زواجه على الكحول قبل أن يتمكن من الزواج إلى أن مات فقيراً مدقعاً.