دهشة السرد في (محنة كورو)

رشا الربيعي

مثل مشهد بانورامي كُتب بدقة عالية ليصور واقعنا بأوجهه المتعددة، كتبت رغد السهيل روايتها (محنة كورو)، وانتقلت بنا من خلال شخصياتها لأماكن ودول عدة، كما رمزت لحُقب تاريخية، وأحداث سياسية مهمة، أسقطت تبعاتها على مجتمعاتها، فكانت لها ولكورو محنتهم الخاصة.

“أليس من الأفضل أن يُقاد العالم من قبل دجاجة حكيمة لا ديك متنمر، أليست الدجاجة مَن يرقد على البيض لتفقس الحياة، ما الذي يقدمه الديكة سوى نقر الدجاجات والصياح النرجسي كل غبش؟”
دورٌ إنساني
اهتمّت السهيل في منجزها السردي بالمرأة العراقية، وتجلّى ذلك واضحاً في روايتها هذه، عبر شخصيات نسوية مختلفة قادت مسرح الرواية إلى حيث أرادت كاتبته، فكانت لـ (الدكتورة خلود 1980) البطولة، التي ربما قد زاحمت حتى السارد (كورو). خلود الحائزة على شهادة الدكتوراه في تخصص علم الفايروسات، جعلت الرواية بمثابة رحلة علمية، كما ومثّلت أنموذجاً للمرأة المكتفية بذاتها، والمهتمة بالعلم وتطوراته، ولم يشغلها اهتمامها وتخصصها العلمي وما يتطلبه ذلك من جهد عن ممارسة دورها الإنساني بالحياة، فكانت لها زياراتها التفقدية للجيران والأقارب، إذ تولت رعايتهم ومتابعة وضعهم الصحي والمعيشي، وتجلى ذلك عبر مواقفها مع جاريها (أبي نبيل 1998) و(نجيب)، كما تابعت الوضع الصحي والأسري لابنة أخيها (غزلان 2006)، وتعد الأخيرة كذلك أنموذجاً يحتذى به للنساء، إذ لم تصغ لمشاعرها عندما قررت الانفصال عن زوجها (حاكم 2003)، المتورط بقضايا فساد مالي وابتزاز واختطاف الناشطين، والمتاجرة بالنساء والفتيات القاصرات، ويحسب للكاتبة في روايتها منحها مكانة جيدة سردياً حتى للنساء غير المتعلمات كشخصية (أم نبيل 1991)، فبالرغم من كونها سليطة اللسان، نجدها أجادت في قيادة أسرتها، والمساهمة من خلالها في بناء مجتمع سوي منتج، ومحب لنفسه وللآخرين.
(ترند) عراقي
لأن اليوم العراقي الواحد متخم بالأحداث الكثيرة والمثيرة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أو ما يسمى بـ (الترند العراقي)، تمرّ الأحداث والقصص المهمة دون أن ننتبه لها، لنجد أنفسنا بـ (ترند آخر)، وهنا تتجلى براعة (السهيل)، التي نجحت بتحويل روايتها إلى سجلٍ يومي إبداعي لكل ما مرّ بنا خلال فترة الجائحة، سجلٌ ربّما قد غفلنا عنه بحكم الانشغال وزحمة الحياة.
حيوات شخصية
قد تكون الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر قراءة بالنسبة للعامة بحكم أسلوبها السردي، لذا يعمد بعض الكتّاب المهتمين بتطوير وتحسين مجتمعاتهم إلى تناول قضايا ومواضيع مجتمعية مهمة في كتبهم ومقالاتهم، ولا يخفى عن القارئ أن (السهيل) تُعد إحدى أهم الكاتبات التي تحمل هموم مجتمعها، في صلب اهتماماتها عامة ومنجزها الأدبي بصورة خاصة. ففي (محنة كورو صفحة 53)، انتقدت موضوعة هوس الشهرة، وتوجه الكثير من الناس لعرض حيواتهم الشخصية، وتصوير أدق التفاصيل خصوصية، لا لشيء، سوى نيل الشهرة وحصد أكثر عدد من المشاهدات والـ (لايكات)! ولم تعد للبيوت أية حرمة، كما يقال.
تخلف صحي
ضمن سياق الظواهر السلبية التي تناولتها الرواية، بغية تسليط الضوء عليها وتصحيحها، إن أمكن، كانت للتخلف الصحي مشاهد متعددة، كيف لا وهو من ضمن أوج اهتمامات الكاتبة وتخصصها العلمي. ففي (الصفحة 95)، أشارت الكاتبة لخرافة الطلاء الأبيض ومساهمته بالقضاء على الفايروس عبر تقطيره في الأنف، وكذلك معاقرة الخمر للقضاء على الفايروس، وهنا إشارة واضحة حول تردي الوعي الصحي في بلداننا، الذي ظهر جلياً إبان فترة الجائحة، كما تناولت الرواية إقامة مآدب الطعام عند زيارة المرضى من قبل ذويهم في المستشفيات الحكومية، التي أطلق عليها مسمى (المعتقل)، حيث ساهمت تلك العادات بتفشي الوباء بشكل ملحوظ.
وفي ذات السياق لنقد وتشذيب الظواهر السلبية والمساهمة بالحد منها، تناولت الرواية موضوعات مهمة أخرى، مثل جشع بعض الأطباء والصيادلة والمختبريين، واستغلالهم المرضى، وتعدُّ هذه إشارة للرأسمالية وتفشيها حتى في أبسط المجتمعات المحافظة. كما نوهت (السهيل) من خلال شخصياتها الروائية لموضوع المحتوى الإعلامي الهابط، وما حوار الدكتورة خلود وجارتها أم سلمان سوى انعكاس لتخلف معظم البرامج التي تبث عبر القنوات الفضائية، ففي الصفحة (109) تتساءل إحدى الممرضات عن غياب دور المؤسسات والبرامج الإعلامية في تثقيف العامة، وفي الصفحة (179)، تعاتب الدكتورة خلود جارتها: “يا أمّ سلمان، كيف تعلنون عبر قناتكم الفضائية عن أهمية تقطير طلاء الجدران الأبيض في الأنف، بدعوى أن هذا سيمنع الإصابة، كيف هذا بالله عليك؟!”
معادل موضوعي
مثلما سلطت الرواية الضوء على الظواهر السلبية، كان للظواهر الإيجابية حيز واسع، ومنها ظاهرة التكافل الاجتماعي، الذي تمثل بمساعدة الدكتورة خلود و(نبيل 2019 ووالده) للمحتاجين من الجيران، وكذلك (نجيب متعدد الظلال) و(غزلان 2006)، وهو ما يمكن عدّه بالتوثيق السردي لما عُرف بمسمى (السلة الغذائية)، حيث لم يقاسِ أحد إبان الحجر الصحي الجوع إلا ما ندر، بسبب التكافل بين أبناء مجتمعاتنا، وتعزز هذه الظاهرة الإبجابية مَهمّة الإنسان خلال الأزمات.
(محنة كورو) رواية لمعاناة الفايروس ورحلته مع البشر عبر تكثيف سردي مدهش أجادت (رغد السهيل) رسمه وحياكته.
يذكر أن الرواية صدرت طبعتها الأولى عام 2023 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وحازت من وزارة الثقافة على جائزة الأبداع العراقي (مناصفة).