آية منصور/
في الوقت الذي يكون منتهى كدح الأدباء متمثلاً في شرح وتذليل معاناتهم وقصصهم المأساوية، يقفز باتجاه آذاننا صوت خفي يسمعنا شكوى كائنات تضررتْ منا، شكوى مخلوقات أهملناها حدّ الانقراض لنبقى ـ نحن البشر ـ وحدنا أسياد هذا الكوكب الذي نكاد ندمّر فيه كلّ أحد سوانا. الحديث عن الحيوانات، التي نقتل بعضها طمعاً بينما نصطاد بعضها الآخر للمتعة لا أكثر. ترى من القادر على أن يخبرنا بما تراه أعين الحيوانات وما تشعر به إزاءنا؟
ايسوب والجاحظ
لعلّ كتاب “إيسوب الحكيم” من أول الأعمال الأدبية التي أختبرنا بها العالم على لسان الحيوان، فربما تعود حكايات هذا الحكيم إلى فترة تسبق القرن السادس قبل الميلاد. ولا يعد كتاب “إيسوب” مجرد قصص للحيوانات وحسب، بل يمكن أن يكون صفعاً لوجنات الحياة بأحكامها الجائرة على مخلوقات الأرض. هناك أيضاً كتاب “الحيوان” للجاحظ، وإن كانت سطوره تخفي بعض ملامح الحيوانات داخله إلا أنه يعدّ من الناحية الزمنية من أوائل الكتب التي حرضت على النظر إلى الحيوان، دون أن ننسى “كليلة ودمنة” الذي هو خلاصة حكمة إنسانية تتفوّه بها حيوانات أرادها الكاتب أن تكون أكثر حكمة وتعقلاً من البشر.
فماذا عن الأدب الحديث، كيف تعاطى مع هذه المسألة، كيف أعار الكاتب الحديث لسانه إلى الحيوان ليتكلّم ولتكون له حصة في الحديث عن نفسه.
مزرعة الحيوان
هذه الرواية التي لا تتجاوز الـ١٢٠ صفحة، استطاعت أن تهمس في آذاننا الصماء واقعيتها المفرطة والتي غفلنا عنها كثيراً.
“جورج أوريل” يقتحم لنا إحدى مزارع انكلترا، لنرى الخنزير “ميجر” الذي يجمع حيوانات الحظيرة مؤكداً لهم أن التعاسة التي تلاحقهم سببها الإنسان! وعليهم أن يتخلصوا من حكم هذا المستبدّ. بعد خطاب يموت هذا الخنزير الثائر بعد إلقاء خطابه بأيام، ليظلّ خطابه محرضاً الحيوانات الأخرى على الثورة ضدّ مستعبدهم الإنسان، فرفعوا شعارات من قبيل “ذوات الأربع أخيار وذوات الاثنين أشرار”، “جميع الحيوانات متساوون”. وهنا، يهجم السيد “جونز” وهو صاحب المزرعة على الثائرين لكنه فشل فشلاً هائلاً، إذ تحولت مزرعة مانور بين لحظة وأخرى إلى مزرعة حيوانات فعلاً، مزرعة يملكها الحيوانات لا البشر!
ولأن الحيوانات تريد “مجرد العيش الكريم” لم يلتفت أحد إلى سيطرة وهيمنة الخنازير الذين أصبحوا بمرور الوقت يحكمون دون انتخابات ويرفضون كلّ اعتراض أو انتقاد “كم أصبحوا يشبهون البشر في هذا؟” إلى أن انقلب الخنزير “نابليون” على شريكه في الحكم “سنوبول” بواسطة بعض الكلاب المدرّبة فأصبح الحاكم الأوحد. عندها تم اتهام سنوبول بالتجسس لمستر جونز! وعاد كلّ شيء إلى سابق عهده، وعادت المزرعة، مزرعة مانور، هكذا ببساطة!
تصوّر الرواية كيفية صنع الديكتاتوريات، وكيفية الهروب منها ثم العودة إليها بلباس جديد، لباس الثائرين الجدد. ذلك أن الحيوانات كانت قد ثارت ضد ظلم الإنسان، لتقع فيما بعد في حفرة طغيان الخنازير “المتشبهين بالبشر”.
مذكرات كلب عراقي
الكلب “ليدر”، يبدأ سيرته في رواية “مذكرات كلب عراقي” للكاتب عبد الهادي سعدون، بربط حياته بحياة بلد تآكل بسبب الحروب. إنه نسخة الشخص العراقي، يتقمص المعاناة التي طالت البشر هنا. يقول “ليدر” أنه ولد قرب دجلة، يحبه كثيراً، لكنه في الأغلب يشعر بالضجر من اسمه الذي يذكره بأسم القائد الآخر للشعب الذي كان معلمه على خلاف دائم مع أفكاره، حتى إن هذا الكلب كان ـ كسيده ـ يرى أن القائد الكبير هو سبب كل هذه الحروب. إذْ يمضي جلّ وقته بذكر تفاصيل ووصف حال “المعلّم” الذي يريبه، وحال العراق تحت حكم “الليدر” البشريّ الذي بسببه تتحول حياة معلمه المناوئ للسلطة إلى جهنم، تموت زوجته، ويسافر كلّ من ولديه على أمل الهروب من حرب جديدة قادمة تلوح في الأفق، وتتم مصادرة المنزل الذي يقع على دجلة، ثم يقتل المعلّم على يد مجموعة متسلطة، فيبقى ليدر وحيداً لا يعلم شيئاً عن هذه الحياة سوى الزوابع التي تبدأ بالهبوب نحوه، إذ سيرى تحول أهل هذه البلاد إلى لصوص وقتلة يتذابحون فيما بينهم من أجل ثلاجة أو مغسلة! وكيف يبدأ التعامل معه على أنه حيوان ليس بذي فائدة، في إشارة من الكاتب إلى ثقافة مجتمع بدأ بالانهيار.
الرواية تعيد سرد الخراب العراقي بعين كلب، قبل وبعد الحرب، بوصف وافٍ لنظام قمعي ألقى بظلال تعسفه حتى على الحيوانات. فـ”ليدر” الذي لم يكن يطيق السلطة، يفرغ كلّ ما في مثانته على رأس تمثال القائد فيشعر حينها بالإنجاز والنشوة والانتصار لمربيه ومعلمه !
غير أن الفقدان والشعور بالضياع يجبران ليدر على الانخراط في حالة التشرد الروحيّ التي تأخذ جسده للبحث عن منفى والخروج من البلاد التي لم يعد يملك فيها شيئاً، لا عائلة ولا أماناً، لم يعد حتى للحيوان مكان في هذا الوطن.
الرواية إدانة للإنسان الذي يبدو فيها أنانياً متنصلاً عن مسؤولياته من أجل فوضاه الداخلية.
المسخ
هذه الرواية عن تداخل الكائنين معاً فهي عن إنسان ـ حيوان، أو عن حيوان ـ إنسان، لا فرق.
تخيّلْ أنك استيقظت صباحاً لتكتشف أن جسماً آخر غير جسمك أصبح غلافاً لروحك! وأنك تحولت إلى صرصار!.
هذا ما وجده “غريغور” الذي استيقظ بعد عدة كوابيس مزعجة ومرهقة ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة، بالمعنى الحرفي والنفسي، وتضيع شخصيته تماما، إذ بدأ يُعامل من قبل عائلته باحتقار حتى تقرر قتله بكلّ سهولة، كما تقتل الحشرات!
الرواية لفرانز كافكا الذي مهد لقراءة النفس البشرية وما تعاني من كوابيس تطوف على سطح الروح الداخلية، وهي بمثابة صفعة موجهة لنا، لتخبرنا، أننا ولا أحد سوانا، سبب سقوطنا.
يصف كافكا الصعوبة التي تواجهها الحشرة حينما تكون مستلقية على ظهرها ولا تستطيع التحرك، ونظرات الآخرين له، لنكتشف من خلاله كيف تشعر الحشرة حين نتوجه إليها بنظراتنا.
“غريغور” الذي كان يعمل من أجل إعالة عائلته بعد تقاعد والده، تبدأ أهميته بالتلاشي شيئاً فشيئاً بعد تحوله. والأصعب من كلّ هذا، حينما يعلم أن والده سليم وليس مريضاً وهو قادر على العمل بالضدّ مما كان يدّعيه. في النهاية تقتله تفاحة. نعم، تفاحة قد تؤدي بحياة كائن ما على هذه الأرض، لكن من يفكر؟
لعلّ الحشرة الحقيقية التي أراد لها كافكا أن يعيرها لسانه للتكلم هي الروح، الروح التي تتضاءل وتتعفن كلما رأت هجوماً شرساً من الآخرين. إنها الغابة الإنسانية التي تحولك إلى مخلوق آخر فيه كلّ السمات عدا الآدمية.
النورس جوناثان
هذا الطائر، يخبرنا ببلاغة عالية، أنه ليس طائراً يملك جناحين وحسب، بل أن جناحيه يمكن أن يفعل من خلالهما كلّ شيء! يبلغنا كذلك أننا – نحن البشر- نستطيع أيضاً التحليق بأحلامنا دون أجنحة، ولن يكلفنا ذلك شيئاً سوى بعض الصبر والتحديات التي تبدو أحياناً مثل زجاجة غير مرئية لشدة نظافتها!
يخرج لنا “ريتشارد باخ” في روايته، جونثان كلما ارتفع واستدار بحركات جديدة وخطرة ليس لإثارة إعجاب طائر، بل لخلق نمط علاقة يبيّن من خلاله قدرة المخلوق.
“جونثان” يجد أن للحياة أهدافاً أسمى من كونها “هيا، استيقظ واعملْ من أجل الشرب والأكل”. هو لا يشبه والديه كثيراً. والداه المتشائمان ينتظران موته لشدّة الجوع بسبب التحليق كثيراً وعدم الأكل، كانت له رؤيته الخاصة التي تكلّف الكثير، مع صدمات وكدمات ومخاطر موت مؤكد حتى بعد طرده من القبيلة، وكحال كل من يهجر السرب يصبح منبوذاً كما في المجتمعات الإنسانية، إذ بقي بحالة صراع نفسي داخلي جعلته يبتعد كثيراً عن عالمه ليسبح في مياه السماء فقط !
بعدها يعود ليثبت لعائلته أنه مازال حياً، بل ويحلق إلى أبعد نقطة يمكن تخيّلها.
التحالفات الثلاثية في المملكة الحيوانية
الحصان يحاول جاهداً عقد اتفاق وتحالف مع “البغال، الحمير” في رواية “أمين الريحاني، فينجح أخيراً في تحقيق الوحدة ضدّ النفس البشرية وما تحتوي من طغيان، سببه “طيبة الحيوانات المفرطة” من أجل إعانة الإنسان الذي لم يكن موفقاً او مُقدِّرا للعطاء، لكن هذا الاتفاق الذي نجح، عمل على إقصاء العديد من الحيوانات وإبعادهم. كما أن الحيوانات اتفقتْ في الاجتماع على تناسي الخلافات الدينية والعقائدية ودمجها معاً، الأمر الذي اعترض عليه الثعلب، مطالباً إياهم بمناقشة أمور مصيرية ومهمة كهذه. فما كان لهم إلا أن قاموا بتعذيبه ثم إعدامه!
يشبهون البشر كثيراً: سلطوية لا تنتهي. وثغرة صغيرة جداً تفصل الخوف عن الالتزام؛ ما أن يعبرها أحد حتى يفقد ضميره تماماً.
نحن مدعوون لرؤية أنفسنا في هذا العالم من زاوية أخرى: في كل هذه الأعمال فإن سقوط الحيوان وتسلّطه على أخيه الحيوان يجعله أكثر شبهاً بنا نحن البشر!