حوار أجراه: حسن جوان /
وثّقت كل شيء في حقبة هي الأكثر اشتباكاً في تاريخ شعب. فقد وثقت الحب والجريمة والإرهاب والسقوط والارتقاء والهرب والغياب، لكن دون أن تفلت من بين يديها أدبية النص السردي، فلم تقع في مباشرة التوثيق إزاء أدبية صوت الراوية فيه.
كتبت عن العوالم الداخلية للعائلة والمجتمع الكوردي في أزمنة متعاقبة أسهمت في تكويناته السايكولوجية والاجتماعية، كما فصلت الحديث عن تحولات الصراع والمصائر إبّان سقوط الموصل تحت سطوة براثن الإرهاب. روائية كوردية اختارت العربية لغة لأولى رواياتها التي صدرت مؤخراً عن (دار سطور) تحت عنوان “بقايا” وحظيت باهتمام لافت من لدن النقاد والقراء على حد سواء. تواصلنا معها فكان هذا الحوار الخاص بـ “مجلة الشبكة”:
* ثمة إعصار.. وأنت امرأة تجلس في قلب دورانه، تحتفظ بهدوئها، وتكتب عن حمولات الإعصار، بينما يتحول كل شيء يحمله العصف الدائر حولك إلى ذكرى. كيف أسعفك صمتك في مراقبة الخراب والحب والعاصفة وتدوينها؟
– لم يسبق لي أن أنهيت مسوّدة رواية إلا وتخلصت منها قبل أن أنهيها، ونجت “بقايا” حين قرأت إحداهن مسوّدتها وعلّقت: “أنتِ امرأة قالت كل شيء في عالم ليس مسموحاً للنساء فيه قول الكثير.” يومها كتبت حانقة على ذلك العالم: “اسمحوا للمرأة أن تكتبَ وجودها ونفسها وخيالها وتكوُّنها واحتراقها واندثارها وإيمانها وخشوعها وتمرُّدها؛ فمنذُ فجر التاريخ والرجل هو من يكتبُ نفسه ويكتبُ المرأة…”
لقد عرضت في رواية “بقايا” أكبر عدد من القضايا، أهمها قضية المرأة. فعلى قدر ذلك الإعصار الذي يحيط بي من الخارج يوجد في المقابل إعصار مضاد يقاومه في داخلي وهو ما خلق عندي ذلك الهدوء وذلك التناغم بين العالمين، ثم تلك القدرة على المراقبة والكتابة عن الحب والحرب… أنا لا أتخيلني أتخبط وارتطم بجدران الإعصار الذي تفترضه في سؤالك أثناء دورانه، بل أجدني أجلس في منتصفه جِلسة بوذا وأتباعه نفسها، أتأمل وأنتظر تحوّل عصفه ذاك إلى ذكرى تستحق أن تنبعث بالكتابة.
* تسكنين في التخوم.. تحيط بك الجهات، تخوم الروح والجغرافيا، وتخوم التاريخ والثقافات المتصارعة والمتصالحة أيضاً. هل ألهمك هذا السكن طرح مزيد من الأسئلة، أم أنه وفّر عليك أجوبة يمكن تدوينها كفلسفة ونقاشات تجلت في شخصية إيزيس والأب المتخيّل؟
– وجب أن يتوفر في الكتابة شرط العدل، وفي الكاتب شرط الإنصاف، فالكاتب المنصف هو كاتب المنتصف، أي من يقف على نفس المسافة بين رأيه والرأي الآخر حين يعرضهما. كل سؤال فلسفي وغير فلسفي طُرح في رواية “بقايا” طرحته شخصية “روشا” بكل ما فيها من استقلالية، لكن ليست كل الأجوبة الفلسفية وغير الفلسفية التي عرضتها روشا تدخل ضمن إطار ما تؤمن به أو تميل إليه، وكما كتبت مرة: “كن الجميع حين تكتب، ونفسك حين تتكلم، ولا أحد حين تفكر.” فلا يستحق لقب الكاتب من يتفرّد بقول رأيه فقط يا سيدي؛ بل منْ يحمل على عاتقه مسؤولية قول الرأي الآخر أيضاً، لذا حاولت قدر الإمكان أن أرتدي بإنصاف كل الشخصيات التي كتبت عنها، وبإنصاف أيضاً حاولت أن أعرض التاريخ والانتماءات أو الثقافات في هذا الجزء الجغرافي المتفرد عن العالم ومنه.
* الحضارة المصرية تعدّ من أعظم الحضارات، وهي لا تقل شأناً وتأثيراً عن الحضارة الرافدينية. لكن ما الذي جعلك توظفين أسطورة مصرية كبرى لتصبح الثيمة المركزية في روايتك؟
– أنا لم أمنح نفسي خيار أن أختار بين حضارتين أو بين أسطورتين، فبغض النظر عن عشقي لتاريخ الحضارة المصرية وانبهاري بكل صغيرة وكبيرة تخصها الذي لا يقل عنه أبداً عشقي وولهي بتاريخ الحضارة الميزوبوتامية، لكن الأمر كان منذ البداية يتعلق بمضمون الخرافة نفسها والربط الذي بالإمكان خلقه على وضوحه بين أسطورة الأخوين (أزوريس وسيت) والأخوين (قابيل وهابيل)، وهناك حوار مطول في الرواية يوضح ما كنت أحاول أن أقوله في ذلك الربط، وباختصار فإن الثيمة هي التي فرضت نفسها، لا هوية الحضارة…
* لماذا اخترت العلاقة الأخوية بين بطلي روايتك بناء على توظيف الأسطورة رمزاً موحياً خطيراً كان يعبث بمخيلة القارئ الى أن انتهى الأمر بتفسير متأخر عن نوع من الذهان المرضي لدى إيزيس؟
– هذا السؤال أيضاً يتعلق بالفكرة التي كنت أحاول أن أمررها عن طريق ذلك التوظيف وهي فكرة تأثير الكلمة في عالم باتت فيه تجارة الكلمات مشاعة لا رقابة عليها، فللكلمة مديات ورحابة وأبعاد يا سيدي، ولها تبعات قد تُعلي وقد تُسقط، قد تَبني وقد تَهدم، قد تُحيي وقد تُميت. ما أردت أن أقوله هو أن غرس الكلمة الخاطئة في عقل المتلقي بالإمكان أن يُحدث في نفسه أوهاماً لا وجود لها، ولكي أوصل فكرتي تلك كان يجب أن أستخدم رمزاً موحياً وخطيراً كذاك.
* كيف اخترت اللغة العربية لكتابة روايتك الأولى بديلاً عن الكوردية، وهل تنوين خوض تجربة مقبلة بإحدى اللغتين؟
– أنا من مواليد مدينة الموصل، غادرتها وأنا في السابعة عشرة من عمري وهذا يعني أن لغة التعلم كانت هي اللغة العربية، أما اللغة الكوردية فأنا أجيد التحدث بها بطلاقة، وأريد أن أذكر هنا أن الفضل في ذلك يعود لوالدي فقد كان حريصاً جداً على أن نتقن، أنا وإخوتي، التحدث باللغة الأم وكان يحفزنا دوماً على أن تكون تلك هي لغة التحدث الرسمية داخل جدران المنزل. هل سأخوض تجربة الكتابة باللغة الكوردية يوماً ما؟ بصراحة أنا أتمنى حقاً ولكن لا أعرف إن كان بإمكاني تحقيق ذلك.
* هل كان للعائلة أي رصيد في التأثير على بنائك الشخصي كروائية تضج فصول روايتها بالخيالات والمصائر والتاريخ؟
– العائلة هي منصة التحليق الأولى لكل إنسان وأنا أدين لعائلتي بتحقيقي لهذا المنجز المتواضع، وأخص بذلك والدي العزيز فقد ورثت عنه حبه للتاريخ والسياسة، ومن هنا أريد أن أشكره على كل تلك الحكايات التي عاشها واعتاد أن يحكيها لنا في الفترات الرتيبة التي كانت تتوقف فيها الحكايات عن أن تحدث لنا أو بالقرب منا، ما جعلني بشكل أو بآخر أستوحي من حكاياته تلك شيئاً ما وأحوره بالشكل الذي يلائم “بقايا” وشخصياتها.