علاء حميد /
الباحثة في مجال الأنثروبولوجيا زهراء علي، الحاصلة على الدكتوراه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وتعمل استاذة بجامعة روتجيرز بولاية نيوجرسي الأميركية، غادرت عائلتها العراق إبان حكم الدكتاتورية لتعيش تجربة الغربة والمنفى في فرنسا ثم عادت لتدرس حال النساء بعد 2003.
زهراء علي أجرت بحوثاً اجتماعية ميدانية في العراق، حلّلت فيها ما جرى للنساء بعد 2003، والتغيرات التي طرأت على أحوالهن، ربما يتشابه حال زهراء مع ما مرَّتْ به النساء في العراق، فلقد واجهن الهجرة والانقطاع عن الوطن الأم وعذابات أخرى كثيرة.
نحاول في هذا الحوار مع د. زهراء علي الاطلاع على رؤيتها لواقع النساء العراقيات، فهي تراهنَّ فاعلاً اجتماعياً مؤثراً في تحولات العراق بعد تغيير ٢٠٠٣.
الغربة والمنفى
* نبدأ من مؤلفَكِ “النساء والجندر في العراق بين بناء الأمة والتشظي”، فهناك ما يلفت في إهداء كتابك، إذ كتبت إلى “رجاء موسى شعبان التي تحمّلت وعاشت كلّ معاناة وتضحيات الغربة والمنفى، إلى روح والدي الشهيد علي كاظم العضّاض الذي قتل في بغداد يوم 18 تشرين الثاني 2006 على يد مجموعة مسلحة إرهابية”.. نجد في الإهداء الغربة والمنفى والقتل، بماذا تعلقين على ذلك؟
– بدأت هذا البحث كامرأة شابة في بداية العشرينات؛ نشأت في المهجر في فرنسا، منحتني الحياة والعمل الميداني في العراق ما بعد ٢٠٠٣ إحساساً واقعياً للغاية بمعنى الحياة اليومية في العراق، ولا سيما في بغداد، التي اضطرت عائلتي إلى مغادرتها في أوائل الثمانينات من القرن العشرين. وقد سمحت لي هذه التجربة بتفكيك تصوراتي المسبقة عن العراق المستقاة من الشتات، والمبنية على نشأتي في أسرة يهيمن عليها شعور مسيّس للغاية حول ما يجب أن تكون عليه “ثقافتي” العراقية، فقد نشأت في بيئة مبنيّة على فكرة العودة إلى “الوطن الأم”، وهي فكرة تعزّزها تجربة العنصرية وكراهية الإسلام في فرنسا، حيث تشكّلتْ فترة طفولتي ومراهقتي المبكرة بحلم “العودة” إلى العراق، الذي كان يتذكره من هم حولي كنوع من الجنّة على الأرض. والدتي في الأصل من النجف، ولم تكن ناشطة سياسية ولم ترغب أبداً في أن تكون كذلك، وقد تأثّرت المسارات الشخصية والسياسية لوالدي، وهو في الأصل من الناصرية، بمسار محمد باقر الصدر، الشخصية السياسية والدينية العراقية. وفي رغبته في اتباع الشهيد الصدر، أصبح أبي إسلامياً. عارض علانية نظام صدام، وانضم إلى المعارضة السياسية، وموّل منظمة تدعم ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في العراق. وقد كان منزلنا في مدينة فرنسية صغيرة على الحدود السويسرية، مليئاً باللاجئين العراقيين من عائلات أو رجال ونساء بمفردهم، كانوا قد فرّوا من الحرب والعنف في العراق في ظل نظام البعث. وقد كانت فترة شبابي المبكّرة تتمحور حول سرديات اللاجئين العراقيين للمعاناة وسوء المعاملة، والحزن العميق، البالغ القوّة في عيون والدتي، والناتج عن الانقطاع عن عائلتنا ووطننا. وقد تساءلت مرات عدّة: كيف كانت ستبدو حياتنا لو أن انتفاضة عام 1991 قد نجحت، ولو أن النظام قد سقط في ذلك الوقت. أنا مقتنعة بأن حياتنا وحياة معظم العراقيين كانت ستختلف تماماً لو أن الانتفاضات الشعبية ضدّ نظام البعث، قبل عام 1991 وبعده، قد أدت إلى سقوط نظام صدام، بدلاً من أن يتمّ ذلك الأمر عن طريق غزو واحتلال قوات أجنبية. بعد أسبوعين من سقوط النظام في عام 2003 – وكنت في ذلك الوقت في المدرسة الثانوية – عاد والدي ووالدتي إلى العراق. بعد أكثر من ثلاث وعشرين سنة من غربة قاسية تكاد لا تطاق، تمكنوا أخيراً من رؤية ذويهم وأصدقائهم. وفي 18 تشرين الثاني 2006، قُتل والدي على يد جماعة مسلحة مسؤولة عن الكثير من العنف الطائفي في بغداد، وتحقّق حلم حياته الذي هو الاستشهاد، وانكسر بعنف حلم عودتنا إلى العراق.
وضع المرأة
* ماذا لاحظتِ على وضع النساء بعد 2003 نتيجة زياراتك الميدانية المتكرّرة لدراسة النساء العراقيات؟
-هناك تراجع كبير في وضع النساء على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في صيغة تراجع المجتمع بكامله نتيجة الحروب والحصار والأزمات السياسية التي عاشها البلد في العقود الماضية. فالحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة ودام أكثر من عقد دمّر النسيج الاجتماعي وغيَّر الفرد والعائلة العراقية بشكل عميق. من الجدير بالذكر أنَّ الدولة ومؤسّساتها التي يستند إليها المجتمع كالتعليم والصحّة والخدمات العامة بدأ تفكيكها وتضعيفها في زمن الحصار. كذلك يجب ذكر الحرب الإيرانية ـ العراقية وحرب الخليج الثانية وما تعرّض له العراق من قصف وتدمير من قبل القوات الأميركية وقوات التحالف، بما في ذلك البنية التحتية في تلك المدّة، كلّ ذلك ترك آثاراً عميقة على كلّ الأصعدة، وهي ظاهرة حتى الآن. فالاحتلال الأميركي أدَّى إلى تفاقم هذا التَّفتُّت الاجتماعي والسياسي ووضعه بصيغة “سياسات الهوية”. فمن خلال الاحتلال نفسه ونظام المحاصصة والسياسات السيئة التي قامت بها الإدارة الأميركية والنخبة السياسية العراقية التي أتت معها عاش البلد حرباً أهلية وصراعات سياسية أدَّت إلى شرذمته وكرّست نوعية النظام الجديد وسياسات الحكومات العراقية التي جاءت بعد ٢٠٠٣ المحسوبية الطائفية والحزبية والطبقية.
* كيف يمكن فهم ما تواجهه النساء في العراق من تحديات اجتماعية وثقافية، هل برأيك هو مرتبط بالعامل التاريخي كما يظهر من اهتمامك به في كتابك “النساء والجندر في العراق بين بناء الأمة والتشظي”؟
-منهجية كتابي تستند إلى النظريات النسوية التقاطعية والعلائقية كـ”النسوية العابرة للقومية” والنسوية “ما بعد الكولونيالية” مع التركيز على التقاطع بين قضايا الجندر والأمة والدولة والدين. حيث أدرس الطرق التي تتشكّل بها القواعد والممارسات الخاصة بالجندر والخطابات والنشاطات النسائية العراقية من خلال سياسة الدولة والقوميات المتنافسة والديناميكيات الدينية والقبلية والطائفية، فضلاً عن الحروب والعقوبات الاقتصادية. وأدرس بشكل خاص سياق ما بعد الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية وأحلّل واقع حياة النساء العراقيات والنشاط السياسي والتوجهات النسوية، ولا سيما التحديات التي تفرضها الطائفية والتَّوجُّه العسكري.
فإطاري النظري مبني على فكرة أنَّه ليس ممكناً فهم وتحليل وضع النساء والجندر وحده من دون وضعه في علاقة أنظمة سلطة كالدولة والأمة والدين والطبقة الاجتماعية…الخ. فمثلا أرى تاريخيا أنَّ مشاريع الدولة ـ الأمة الحديثة مبنية على تصوُّرات ذكورية وتفاوت في المواطنة بين الرجل والمرأة. أوضح مثال هو قانون الأحوال الشخصية الذي يعدّ المرأة تابعة للرجل وليست متساوية معه في الزواج والطلاق والميراث.. الخ. وهذا واضح أيضاً في سياق أزمة تتصارع فيها “سياسات الهوية”، فالمرأة تعدّ “حاملة الثقافة” أو “الأصالة” وتتلاعب هذه السياسات على جسدها وحقوقها كونها تمثّل الهوية.
منظمات وحركات
* أكثر من 37 منظمة تعنى بالنساء في العراق مذكورة في كتابك، هل هذا برأيك يتناسب مع حاجات النساء العراقيات، وما تؤديه تلك المنظمات، كما أنَّ أغلبها غير معروف للنساء؟
-كتابي هو دراسة اجتماعية للنشاط الاجتماعي والسياسي والتوجهات النسوية في العراق من خلال دراسة إثنوغرافية متعمّقة لمنظمات تدافع عن حقوق النساء وقابلتُ أكثر من ٨٥ ناشطة تتراوح أعمارهن بين 21 و74سنة، من مختلف الطوائف العرقية والدينية والطائفية والسياسية. جمعت تاريخاً شفهياً من أجيال متعدّدة لحياة النساء الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية منذ خمسينات القرن العشرين. ودرست بنحو مفصل نشاطات النساء ومنظماتهن وربطت هذه الدراسة ببحث تاريخي مفصّل عن التجارب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للنساء العراقيات منذ تأسيس الدولة العراقية.
فالحركات النسوية، أو بالأحرى النسويات في العراق، لديها تاريخ اجتماعي غني وفريد مرتبط بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلد. فمنذ ٢٠٠٣ تغطّي مبادرات النساء وحملاتهن في المجموعات النسوية أو في المنظمات الاجتماعية والإنسانية طيفاً عريضاً من الأنشطة التي تهدف في المقام الأول إلى التعويض عن غياب وظائف الرعاية والضمان الاجتماعي والخدمات للدولة. يتبيّن من ذلك أنّ النساء العراقيات دخلن الحيّز العام من موقع اجتماعي متميّز عن الرجل؛ موقع وجّهه التقسيم الجنسي والجندري للعمل. ونشأت “المصالح العملية للنساء” (وهو مفهوم طرحته الباحثة ماكسين مولينو) العراقيات من شروط الحياة الملموسة ومثَّلتْ استجابة لحاجة فورية: الأمن والرعاية الصحية والفقر والأزمة في النظام التعليمي ومختلف أشكال العوائق والقيود الاجتماعية مثل النزعة الدينية المحافظة.
ففي مثل هذا السياق، عملت الناشطات ببراغماتية كبيرة في ما يتعلّق بالتمويل. ودفع الفسادُ العام وضعف المتابعة كثيراً من الناشطات إلى الاعتماد على التمويل الأجنبي او الدولي بدلاً من التمويل الحكومي. ولمّا كانت منظمات النساء قد موّلتها الأمم المتحدة والجهات المانحة الأوروبية والدولية، بشكل رئيس، فقد تأثّر نشاطها وبرامجها وحملاتها بالدعم المالي الذي تلقّته.
بين المطرقة والسندان
وهذا يعني أنّ مصالحهن العملية المحلية واليومية تتشابك مع جداول الأعمال وسياسات الجندر العالمية. إنَّ النساء العراقيات عالقات، بحسب كلمات الباحثة دنيز كانديوتي، بين “المطرقة والسندان” بمعنى أنَّهن يجب أن يكافحن من أجل حقوقهن الشرعية الرسمية (مثل قانون الأحوال الشخصية) التي تتعرّض لتهديد مستمر من القوى الاجتماعية المحافظة، وكذلك من أجل حقوقهن الأساسية في الأمن والكرامة الإنسانية التي باتت ضحية استشراء غياب القانون والعنف الاجتماعي والسياسي المعمَّم في المجتمع العراقي.
ومع ذلك، نجحت مجموعات وشخصيات نسوية مستقلة في تطوير عملهن على المستوى الشعبي والمشاركة في تعبئة صفوف المجتمع المدني بعيداً عن العنف الطائفي والأحزاب المهيمنة، ما شكّل ضغطاً على الحكومة العراقية للقيام بإجراءات تشمل الرفاه والدعم الاجتماعي ومكافحة الفساد.
* هناك جدل منذ سبيعينات القرن الماضي في العلوم الاجتماعية بشأن الذاتية والموضوعية، كيف تعاملت معها في دراستك للنساء العراقيات؟
-بما أنّني عالمة اجتماع ذات توجُّه نسوي اعتقد أنَّ “الشخصي هو سياسي”، توجُّهي النظري النقدي يجعلني اعتقد أيضا أنَّ “الشخصي هو أكاديمي”، بمعنى أنَّ مساري وموضوعيتي، فضلاً عن السبب الذي جعلني أختار موضوع بحثي وكيف قرَّرت إنجازه، هي جوانب أساسية في عملية البحث. هذا موقف نظري مهم تتناوله الدراسات الإنسانية والاجتماعية النقدية من بيير بوريو الذي تحدَّثَ عن “وضع احتمالية المعرفة”، أي التموضع الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمنتجي المعرفة، مستكملاً بكشف ميشيل فوكو عن الصلة بين المعرفة والسلطة. وقد تمّ تطبيق هذا المنظور بقوّة في النظريات النسوية مثل ما تشير إليه دونا هاراوي وسندرا هاردينغ. فالمنهجية النسوية تشكّك في مفاهيم الموضوعية الإجمالية وتقدّم معرفة من وجهة نظر نسويّة تضع كلاً من النسبية والموضوعية الإجمالية موضع الاختبار.
كنت ناشطة نسوية
* في بحوثكِ ومقالاتكِ وأعمالكِ الميدانية والبحثية، أنت تنحازين للمنهجية النسوية، هل هذا نابع من كونك باحثة في هذا المجال تحديداً، وأيضاً كونك ناشطة نسوية تدعو إلى قضايا العدالة والمساواة تجاه النساء؟
-كنت ناشطة نسوية قبل أن اتجه إلى العمل الأكاديمي والدراسة في مجال علم الاجتماع. وكان عمري لا يتجاوز ١٧ سنة عندما شاركت في تشكيل منظمة نسوية اسمها (التكتل النسوي من أجل المساواة) مع كريستين دلفي التي أسَّست الفكر النسوي المادي في السبعينات في فرنسا. وشاركت مشاركة كبيرة في الحركة المناهضة للحرب بالإضافة إلى الحركة المناهضة للرأسمالية. نشاطي السياسي جعلني أرغب في أن أوسّع فكري وأنتج معرفة من وجهة نظر نسوية ونقدية.