حنان اويشا /
للوهلة الأولى تستميل القارئ.. بعنوانها.. وأناقة الغلاف وتعابيره.. البداية وحتى النهاية.. كلها مجتمعة جعلتنا نتريث لأيام عند محاولاتنا للتعبير عنها عبر القليل من الكلمات تعطيها حقها وتتناغم مع ذلك الابداع والروح النقية لكاتبها، وما حمله من مشاعر جياشة ومعان حقيقية للحب والتعايش والوفاء لاناس كانوا جزءا من حياته وربما حياته بأكملها..
فبمجرد أن وقع نظري على عنوانها خلت بأنني متوهمة فيما أقرأ.. حتى بدأت اتهجى الحروف كمن عرف اللغة لتوه…إنها رواية (سابرجيون) للكاتب العراقي المبدع عامر حمزة بطبعتها الأولى الصادرة عام 2014 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع. الرواية تحكي قصة الكاتب الذي عاش طفولته وشبابه في (حي الآثوريين) في منطقة الدورة ببغداد، ومن خلال قصته يبدع في وصف حياة المسيحيين في ذلك الحي بكل تفاصيلها، الصغيرة منها والكبيرة.. مسراتها وآلامها.. أعيادهم بطقوسها.. مناسباتهم بصخبها.. الوصف النابع من حقيقة مشاعره وشدة تأثره بتلك الفترة ومن ثم تأثيراتها على حياته الشخصية، ليعود بنا لذكريات ما زالت عالقة في أذهان من عاش في ذلك الحي ومن لم يعش!!.. ولا يزال لتلك الأيام وقعا جميلا وخاصا في نفوسهم وربما تمتلكهم الحسرات وتدمع عيونهم كلما عادت الى ذاكرتهم متمنين عودتها يوما.. ولكن.. روايـــــــــــة أبطالـــــــها… (ميــــــري)و(هــــــــاول) و (الأب تـــومــــا) و(اوســي الجــــــريء) والمشاكس(جوكي) و(وليم الخياط) و(محمد الأسمر) و(الجميلة بتي) و(البرنسيسة) و(جورج العجوز) وغيرهم الكثير ممن حاكوا بقصصهم نسيج حياة ملؤها الحب وجمال الروح وعطر الاخوة ومن ثم ألم التشتت..
وبرغم أن الكاتب اهتم بشكل أكبر بحياة المسيحيين الآثوريين بعد انتقالهم الى الحي، إلا أنه أحيانا يشير الى ما قبل تلك الفترة وتحديدا تلك الظروف التي اجبرتهم على النزوح من مناطقهم حيث يقول في وصفه لها..( كحال الفقراء والمعذبين دفعتهم الحاجة للبقاء الى النزوح من أماكنهم الأصلية الى أخرى غريبة، فعافوا الشمال الشاسع ليدوسوا مجبرين على ذكرياتهم أيام كانوا فيها يرون الشمس الكبيرة والجبال المخضرة والوديان الدافئة، وأيام كانوا فيها قريبين من الله، لينتظموا مضطرين في (كمب الحبانية) ويعملوا عسكريين وعمالا وفنيين اتقنوا أشغالهم المتنوعة ليحطوا أخيرا جوار نهر دجلة عند أحد بساتين النخيل في الدورة ببغداد).
لقد حاول الكاتب باسلوبه المعبر عكس انطباعاته عن تلك الأيام المحفورة في ذاكرته، وعلى ما يبدو انها أبت الزوال من مخيلته، وذلك يبدو واضحا عند سرده للقصص التي كان يشهدها ذلك الحي ومنها احتفالات أهله باعيادهم ومناسباتهم حيث يصف الكاتب اليوم الذي شارك فيه أبناء الحي لاول مرة احتفالهم بعيد (نوسرديل) او ما يسمى بـ (عيد الرشاش) فيعبر عنه قائلا: ( قد تكون هبة القدر هي من كانت تنتظرنا دون أن ندري، تلك الحياة التي ارتدى فيها الله ثوب السلام والمحبة، وارتدى فيها يسوع ثوب خلاصنا من خطايانا لندور موزعين في سماء الشوارع، نركض من شارع لشارع، ومن بيت لبيت، ومن ممر لاخر.. حاملين جرارنا وأوانينا وطاساتنا وسطلاتنا حالمين ومتشوقين لاصطياد بعضنا البعض، وبلل بعضنا البعض محتفلين بيومنا العظيم.. اليوم الذي رأينا فيه أنفسنا عن قرب، ويوم رأينا فيه الجميع عن قرب ويوم نرى فيه عظمة الحياة التي لنا )..وعلى ذلك الغرار يمضي الكاتب في وصف مناسبات وأعياد أخرى تلك التي كان يحتفل بها أهالي الحي المسيحيين كعيد القديس مار كوركيس وعيد الصليب وغيرها..
وما يضيف للرواية هو ذلك الانطباع الجميل الذي ينقله الكاتب للتعايش الاخوي بين أبناء الحي الذي كان غالبيتهم من المسيحيين (الآثوريين) وبينهم عوائل أخرى عربية وكردية. وما يضيف متعة للقارئ هو استخدامه لكلمات وتسميات أشياء باللهجة العامية تماشت مع البساطة التي اكتنفت الحياة في ذلك الحي، وعكست أكثر بهجة الحياة التي عاشها أبناؤه. أخيرا لايسعنا هنا سوى الثناء على جهود الكاتب على هذه القطعة الادبية – التوثيقية التي نعتبرها صورة رائعة اخرى للابداع العراقي وبراعة أبنائه في التعبير عن ذاتهم وحياتهم وتآخيهم. وهذه دعوتنا للجميع.. إن الرواية جديرة بالاقتناء ومتعة القراءة تمتلك القارىء منذ اسطرها الأولى المتمثلة في اهداء الكاتب الذي يقول فيه ..(الى كل من كان هناك…الى نثيث الماء وندى الشموع وشمس النذور… إلينا هنا وهناك.