فدوى العبود/ كاتبة سورية
تتشكل صورة الآخر في جزء منها من خلال آمالنا ورغباتنا ومخاوفنا، وقد تتضخم هذه المخاوف والآمال والرغبات، فتتوارى الصورة الحقيقية خلف صورة مصطنعة بعيدة كل البعد عن الأصل.
إن قراءة متأنية للموروث الشعبي والحكايات المتناقلة عن النساء تدل، بما لا يدع مجالاً للشك، على المبالغة في وصفهن كأفاعٍ أو حيّات متلونات، ونتذكر رأس ميدوزا، وحكايات الساحرات، والمغويات، وقصة السقوط من الجنة التي سببتها امرأة وغيرها.
لقد رُسِمَت للنساء، عبر تاريخهن، صور بصرية ولفظية وثقافية تنتقص منهن ومن وجودهن العاقل؛ وتنتصر للوجود الجسدي المحض. ولا يقتصر الأمر على الموروث والأمثال، بل يمكننا أن نعثر في أعمال كبار الكتاب، على صورة مخزية للمرأة. يحضرنا هنا مثال هنري ميلر مؤلف (مدار السرطان ومدار الجدي)، وغيره من الكتاب والمثقفين الذين يصورونهن بطريقة بعيدة عن إنسانيتهن الحقّة.
المرأة في فن النحت
وقد أورد الناقد السعودي عبد الله الغذامي في كتابه (المرأة واللغة) نقلاً عن إحدى الكاتبات الفرنسيات حادثة جرت معها في زيارة إلى متحف بومبيدو في باريس، فقد شعرت بالخزي أمام مبالغات الفنانين الرجال الذين يُظهِرون المرأة في فن النحت بوصفها جسداً يحمل رأساً صغيراً فارغاً، ومعه أعضاء جنسيّة مضخَّمة بصورة مبالغٍ فيها.
والسؤال الذي ينبثق هنا: ما هي العوامل التي تدفع الرجال إلى تشكيلنا بهذه الصورة؟
سنعثر في مفكرة الكتابة النسوية العربية والأوروبية على إجابات مختلفة، فبالنسبة للمفكرة “نوال السعداوي” وفي كتابها (الرجل والجنس) 1973، ترجع هذه النظرة إلى العهد الأموميّ حين مثلت المرأة الخصوبة، ما جعل الرجل يشعر بالاضطهاد ويضمر للمرأة الخوف والكراهية والغيرة، وهي تستدل بالرسومات القديمة والأثريات، فالخوف بدأ حين أدرك الرجل أن المرأة تجدد الحياة وترمز للعطاء، الأمر الذي ولّد نوعاً من الإحساس بالنقص، ما دفعه إلى تشويه حقيقة المرأة، أي أن المسألة تتعلق بإثبات الذات في مقابل ما هو غيري أو ما هو غير أنا. وتضيف السعداوي إلى الخوف الذكوري الرغبة بالتملك والجشع والتقاتل على توسيع الأملاك. فيما ترى “بام موريس” أن المرأة هي الآخرية التي يعكس عليها الرجال مخاوفهم وقلقهم.
كائن بلا عقل
وعلى خلاف ذلك، تنسب الدكتورة “فاطمة المرنيسي” ذلك إلى الرغبات والهوّامات الذكورية. فحاولت في مجمل أعمالها تحليل هذه الهوّامات وأسسها وتجلياتها في الفن والحياة. وفي كتابها (هل أنتم محصنون ضد الحريم؟) تناولت بالتحليل والتفكيك رسومات “ماتيس”، ويتمثل الخيار الجماليّ في لوحات ماتيس من خلال موجة عارضات الأزياء وتجسد اللوحات التي رسمها المحظيات في العشرينيات والثلاثينيات، في الوقت الذي كانت التركيات فيه يتعلمن وينلن الشهادات، بقي ماتيس حبيس عصر الحريم.
إن تشييء المرأة وتحويلها إلى أداة، أو متعة فقط، والنظر إليها ككائن يفتقر إلى العقل هو رغبة نابعة من عمق الذكورة، التي تتبنى النظر إلى المرأة كموضوع للوحات أو متعة فنية، وإذا كان الشرق يستخدم لقعمها مفاهيم الحريم والفضاء المكاني بين الرجل والمرأة، فإن الرجل الغربي أشدّ مكراً في هذا المجال.
لاحظت “مارجو بدران” أن ثقافة الحريم لم تكن مستندة إلى معتقدات دينية فقط، وإنما استندت بالأساس إلى قيم ثقافية تتعلق بالأخلاق والجنس، فقد نظر للنساء على “أنهن كائنات جنسية تهدد المجتمع بسبب الفتنة التي يمكنهن التسبب فيها.”
كتبت “شارلوت برونتي” مرة: “لو تمكن الرجال من أن يرونا كما نحن بالفعل، ستقل دهشتهم، لكن غالباً ما تكون لدى أمهر الرجال وأحدُّهم ذهناً أوهام عن النساء.”
نظرة دونية
وترى “بام موريس” في كتابها (الأدب والنسويّة) أن هذه العبارة تشير إلى حقيقتين مهمتين، الأولى هي: إساءة تمثيل الرجال للنساء – إنهم لا يروننا كما نحن في الواقع، وهو أمر استمر عبر القرون-. والثانية: أنه من أهم وسائل الحفاظ على تدني وضع النساء وتبرير ذلك التدني؛ فعندما يفكر النقاد الذكور في أعمال الكاتبات النساء، يستخدمون نفس المنطق لينكروا أو يتجاهلوا أو يهمشوا الإنجازات الفنية للنساء. فهم دائما يعتبرون الكاتبات النساء حالات خاصة، فالكتابة عمل الذكور، والنساء لسن إلا نساء!
رسالتها إلى القوة الأبويّة التي كيت ميليت في كتابها (السياسات الجنسية) توجه تستمر عن طريق تحكم الرجال في العلاقة الجنسية، وهذا الاحتياج للمحافظة على الهيمنة الجنسية يفسر تكرار تصوير النساء بأسلوب فيه كراهية لهن في جميع الأحوال كعاهرات.. ميلر (مدار السرطان ومدار الجدي)-عذراوات مقيتات _نتذكر ديكنز والسيدة هافيشام، أو مفرطات الشبق، عفيفات أو فاسقات.
في السياق ذاته، يمكن الشعور أحياناً أن قراءة الرجل للمرأة ستظل تراوح في منطقة سوء الفهم، ويبدو أن الثقافة عملت عملها وبنت هذا الجدار الضخم من التراكمات. يكتب الغذامي: “إن الواقع يكشف أن الرجل لم يحسن قراءة المرأة، ليس لأنه لا يريد ذلك، وإنما لأنه لا يستطيع ولا يسمح له رصيده الثقافي الذكوري بأن يفهم المرأة.”
لقد قاومت السرديات النسوية عموماً، والعربية على وجه الخصوص، الصورة النمطية التي رسمت لهن، وخضن بشجاعة ميدان المناقشة والمساءلة وتفكيك التراث؛ فقد حاولت نوال السعداوي وفي مجمل أعمالها اجتراح وتجديد مسارات جديدة خارج الصورة النمطية التي وضعت فيها النساء، وبذلت جهداً فريداً ورائداً في وقت مبكر.
الهيمنة الذكورية
وقدمت المفكرة المغربية فاطمةالمرنيسي تحليلاً لآليات الهيمنة الذكورية، وتَشكُّل الاستيهامات، وناقشت فكرة الحريم والثقافة الاستهلاكية التي تُسلِّع المرأة.
في كتابها (غرفة تخص المرء وحده)، تسخر فرجينيا وولف من أشكال الخطاب الموسوعي الذي تحتضنه المقصورات الزجاجية وهي حكر على الرجال، لقد هدفت مراجعها وإحصاءاتها إلى إثارة العقول وتحريرها.
لقد أرادت المرأة أن تخطو نحو حقوق مساوية للرجل في إنسانيتها. لكن الصورة التي رُسمت لها بقيت عائقاً في طريقها، لقد كتبت وحللت وناقشت، واللافت أنها لم تكن يوماً متحاملة على الرجل فنراه في أعمالها الأدبية والشعرية بصورة أكثر عدالة بخلاف الصورة التي رسمها الرجل لها عبر تاريخهما المشترك، صورة نابعة من الخوف العميق أو الرغبة بالتملك، وهي بعيدة كل البعد عن صورتها الإنسانية.