خضير الزيدي/
عرف عن محمد أركون ولعه واهتمامه بموضوعة نقد العقل الإسلامي، إذ أصدر -في هذا السياق- عشرات الكتب التي بحثت في الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، بالإضافة الى مسألة الاجتهاد والنقض في الاجتهاد، وغيرها من المباحث التي تتناول الفكر الإسلامي. ومن الطبيعي أن تثار حساسية تلك المباحث آراء الكثيرين من المختصين بالشأن الإسلامي ممن تتقاطع رؤاهم مع هذا المفكر التنويري، الذي مارس طرق تفكيره متأثراً بمناهج الغرب، كالسيمياء والتفكيك والبنيوية، وبقيت رؤيته الحديثة مصدر إشعاع وتنوير، لأنه ينطلق من موضوعة استقلالية العقل البشري وحدود معرفته في القرآن والسنة، ما يشكل على آراء الآخرين معه في موضوعات متعددة، مثل انتقاداته للتراث الإسلامي، لأنه يرى أن دور العقل مفقود في التعاطي مع التوجهات الاجتماعية.
يرى كثيرون، ومنهم الباحث مهدي رجبي، المختص في فلسفة علم الاجتماع، أن محمد أركون يمتلك مشروعاً فكرياً يقوم في مبادئه على نقد العقل الإسلامي من جهة، ومخالفة الرؤية الاستشراقية الى الإسلام من جهة ثانية، ويعطينا انطباعاً بأنه يتبع منهجاً راديكالياً تجاه الدين وتقييم ظاهرة الناسخ والمنسوخ، وغالباً ما يتهم أركون بأن دراساته انتقائية تعلو على أهدافه وغاياته، وربما هي غير مستندة الى مصادر معينة، بمعنى اعتماده على اجتهاده الشخصي.
الولادة والتأثير
ولد محمد أركون سنة 1928 في إحدى قبائل الجزائر من أسرة أمازيغية، منتمياً الى بيئة فقيرة في مجتمع لم ير التعليم الصحيح. تنقل بين مدارس وبلدان عدة حتى استقر به المقام في فرنسا لمواصلة دراسته العليا سنة 1952، دارساً علوم الفلسفة والأنثروبولوجيا. قدم أطروحته (نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. مسكويه الفيلسوف المؤرخ) عام 1957، ثم مارس التدريس في حقل تاريخ الفكر الإسلامي في السوربون، وما يميزه -منذ خمسينيات القرن المنصرم حتى وفاته سنة 2010- اهتمامه بالنظريات والمناهج المعرفية متأثراً بشتراوس وفوكو وبارت وبورديو ودريدا وبرودل، ولاسيما (مدرسة الحوليات في التاريخ) التي كان مؤسسها (لوسيان فافر) من أكثر الشخصيات المؤثرة في فكر أركون ومنهجه باعتماده على ما يطرحه (فافر) في قراءة أسلوب التاريخ الجديد والتدقيق في مواجهة المغالطة التاريخية. كما كان (فرانسوا فوريه) من بين أهم الأسماء التي تأثر محمد أركون بمنهجها، ولاسيما حينما عمد الى دراسة جميع الأدبيات التاريخية وفقاً لمنهجه الانتقادي والبحث في الثورة الفرنسية ضمن فهم عميق لهذا التصور، ما ترك أثره الخاص في طروحات أركون، ولاسيما نقد العقل الإسلامي.
أما ميشيل فوكو فقد كان من بين أهم الشخصيات التي وفرت لأركون تطوراً في منهجه وأسلوبه المعرفي، ولاسيما مفهوم (الأبستيمية) والقطيعة التاريخية ومنهج (الجينيالوجيا والأركيولوجيا)، فقد اكتسب أركون هذه المفاهيم وطورها في حقله المعرفي، ومن خلالها تبلورت لديه إمكانيات متعددة وأسلوب مميز في نقد العقل الإسلامي. أما جاك دريدا، فقد أثر بأركون عبر ستراتيجيته (التفكيكية) ومفهومها الخاص، فكانت آراؤه المنهجية ودراساته تمثل محوراً من العقائد المؤثرة في مفكرنا محمد اركون، منتبهاً في مسعاه الى نقد كل تلك الآراء الثابتة في التوجهات الآيديولوجية، وهو ما وظفه دريدا في التفكيكية، ثم جاء من بعده تلميذه الجزائري. ولعل اللافت في كل ذلك ما مثله مفهوم الاستشراق من الاتجاهات التي تعلق بها هذا المفكر، واذا اتفقت الغالبية ممن تطرقوا الى الاستشراق بأنه مر بمراحل معرفية كاستشراق ما قبل النزعة التجريبية واستشراق المرحلة الحديثة واستشراق ما يسمى بمرحلة ما بعد الحداثة، فإن المفكر أركون تعامل مع نوع خاص من الاستشراق، وهي مرحلة النزعة التجريبية وعصر التنوير، وكل تلك كانت مؤشرات لتطور المنهج والدراسة وما تحقق من فتوحات تنويرية على يد محمد أركون.
الآراء المختلفة مع توجهات أركون
هناك أكثر من دراسة لشخصيات متعددة أنتجتها مجموعة من المؤلفين حول آراء المفكر الجزائري، صدرت في كتاب عن المركز الإسلامي للدراسات الستراتيجية، جاء الكتاب في فصول عدة ومقدمة، انطلق الفصل الأول في المنهجية التأسيسية لمشروع محمد أركون في نقد العقل الإسلامي، أسهم في أدق تفاصيل تلك الأفكار الباحث مهدي رجبي. أما الفصل الثاني فتناول العقل الإسلامي والعقل الغربي عند محمد أركون شارك فيه الباحثان محمد عرب وسعيد متقي، أما ملف (آفات العقل الديني وطروحات أركون) فقد كتب في هذا الشأن محمد صفر، بينما ذهب الباحث سيتي رحمة سوكاربا الى موضوعة مهمة هي نقد الفكر العربي في الأسلوب التفكيكي لأركون، كما ناقشت عبيدة خان وعثمان خليل موضوعة محمد أركون التفكيكية.
هذه المباحث المتنوعة صدرت في كتاب (محمد أركون.. دراسة النظريات ونقدها)، الذي في كل ما يحمله من تصورات في الاختلاف والائتلاف، يعد نافذة فكرية نطل فها على معالم هذا المفكر الإشكالي. ومثلما نجد من يتفق معه، نجد آراء الاختلاف التي يستشهد بها المؤلفون من أمثال علي حرب، إذ يقول: “أسلوب أركون يفتقد الى الإبداع والترابط، وقراءاته لا تثري تاريخ الفكر عند المسلمين.” كذلك تنطلق وجهات النظر المختلفة لهؤلاء المؤلفين من الاستشهاد بغيرهم، مثل قول أحمد العلوي: “لو بذل كل الإنس والجن جهوداً متضافرة لتطبيق قراءة أركون السيميائية فإن ذلك لن يؤدي الى تطور المسلمين.”
ويؤخذ في سياق الاختلاف ما أكده الدكتور عبد الكبير صالح “اذا نجح أركون في تجنب القراءة ذات المنحى اليماني من أجل التهرب من عقائد السنّة والشيعة، فقد وقع بالتأكيد فريسة للاهوتية العلمانية.”
المهم لنا كقراء
ما يهمنا –كقراء- هو كيف نصل الى حقائق التفكير والأخذ بمنهجية تؤتي ثمار العلم وتضعنا -كقراء للفكر الإسلامي- أمام الاهتمام بالنص القرآني والأخذ به. وإذا كانت الأمة تعتمد على الاجتهاد فيما بين علمائها، فالاختلاف لم ولن يكون سبّة إذا ما جمع المسلمون كلمتهم على مسار سليم. وبما أن التطور العلمي وتعدد مناهج العلم الحديث باتا أكثر شيوعاً، فلا ضير في أن نجد من يعيد قراءة التاريخ والفكر الإسلامي ضمن توجهات ومناهج غربية ليصل الى نتائج تحقق مرادها. يذهب هذا الكتاب -الذي بين أيدينا- ليضعنا أمام وجهات نظر مختلفة، بالإضافة الى كشف أدق التفاصيل العلمية والحياتية والاجتماعية للمفكر محمد أركون.