جاسم عاصي/
الصيام واحد من الطقوس التي عرفتها البشرية منذ القدم. إذ كان له قوانين واعتبارات خاصة، زمانا ومكانا، وبنية، ونقصد بها علاقة الصيام بنوع الأطعمة والأشربة مثلا، وتحديد الزمان والمكان. كذلك الفترة الزمنية. وإزاء كل هذا التعدد الذي ذكرناه والذي يعرفه الجميع، خاصة أي جماعة دينية. وهي تمارس طقسها هذا، من أن هذا الطقس يعمل على مراجعة الذات، وحصرا الأفعال، وتنزيه الذات من كل ما يؤثر على الآخر سلبا.
فالصيام طقس يبعد المرء عن ممارسة ما يلحق الضرر بالآخر من خلال زرع هاجس الحذر من الوقوع في أحبولة الصغائر التي تقود الى الكبائر المضرة بوجود الأنسان.
الصوم مقرون بشهر رمضان، ومنه يستمد بركاته ووسائل الأشكال الجديدة التي تضاف الى الحياة. فيكون بذلك رمضان كشهر محفوف بطقوس خاصة، ليست ضمن خاصية الامتناع عن تناول الطعام والشراب، بقدر ما ينتظم ذلك وفق ماتتخلقه من معايير جديدة. فالأنسان يجد نفسه يجدد من طاقة الانتهاء الى الجماعة، لأنه يستمد قيمه من مجموع قيم الآخرين الذين توحدهم طقوس ملحقة بأيام الشهر، هذه الطقوس تتمثل في إقامة المجالس مثلا للاستزادة من قيمة الصوم أولا، وتأثير قيم الشهر الفضيل على الأنسان ثانيا. أن الأنسان الذي يمارس فصل الصوم منطلقا من كونه امتحانا لاسترداد القيمة العليا للإنسان عبر التقرب من الله بالالتزام ليس بتلبية شروط الصيام فحسب في ما يخص الامتناع عن الطعام.
طاقة الايمان
لأن مفردة (الصيام) ذات أشكال متعددة من التعبير والدلالة، لارتباطها بأكثر من فعل يخص العبادة، فالصيام الذي يخص اللسان قبل الفم ذو مدلولات كبيرة، وذات بعد اجتماعي خالص. لأنه أساسا يعتمد على المراجعة والتطبيق، مما يزخر به كتاب الله لتجديد طاقة الأيمان بالله أولا وبخلقه الانسان ثانيا. لأن ثنائية (الله – الأنسان) محكومة مما يفرزه شهر الصوم من قيم أخلاقية وإيمانية. فلا فائدة من الجوع أن لم يشعرك بجوع الآخرين، ولاخير في امتناع لا يفتح لك بوابة نظر الى طبيعة ما يعيشه الانسان الآخر، لذا نجد ان البعض وهم الكثير يسرفون في المأكل والمشرب، ويقلون من طقس العبادة الأخرى، فكأن المعدة هي أم الأيمان وليست أم الداء. الشعوب منذ الخليقة عملت على تجديد بنيتها من خلال تجديد طقوسها. خلقت لها معايير الصوم، سواء كان عن نوع من الطعام أم الشراب، أم إقامة العزلة لأيام عن ممارسته الاتصال مع الآخرين. كذلك إقامة طقوس بمسميات لها ارتباط بالمقدس كشخصية السيد المسيح (ع). كل هذه الطقوس وهي كثيرة، لها اعتبارات متعددة تصب في اعتبار مركزي واحد، هو التوقف لإعادة النظر في ما مضى، والشروع بتجديد الممارسات في أزمنة لاحقة. ولعل صيام شهر رمضان وما يسبقه من أشهر دليل على الاقتراب من طقس الحج الذي هو فريضة في الإسلام الغرض منه مراجعة الذات، وتلافي ما شاب حياة الانسان جزاء تعاقب الأزمنة.
من هذا يكون الصوم ما يوحد من الجماعات والأفراد، لأنه طقس ذي طبيعة مركزية، فليس نعمة رمضان للأغنياء، وأخرى للفقراء. أنه شهر واحد، وذو فريضة واحدة موحدة. أما الاختلاف بما هو متيسر من وسائل رفاه الحياة. إذ تبقى حكمة الإمام علي (ع) وهو يلبي صاحب الحاجة وأمامه ثلاث (الماء الملح الخبز) قائلا: أين نذهب من سؤال الله، فنحن نمتلك ثلاثة. والطارق لا يمتلك واحدة. هذه الحكمة بمثابة داعية لمراجعة ما مارسه الأنبياء والائمة الأطهار والمصلحون وهم يمارسون نفس الصيام، أنه شهر بما فيه ليس ملكا لفرد أو عائلة، بل هو مدعاة لشيوع الملكية، وتعلم البناء الاقتصادي المنبثق عن السياسي الذي هو قائد الأمة. أن تكون للصيام عبرة دائمة في مفهوم المسؤولية الوظيفية والسياسية, في أن نجعل ممارستنا لطقوس تنبثق من مفهوم الصيام.
طقس عبادة
فرمضان بطقوسه فريضة تنتج دروس دائمة، هي أقرب الى صناعة الانسان الصوفي بالمعيار الإنساني. بمعنى لدينا أمثلة كثيرة في العالم، سارت على هدى الإسلام، ومارست طقس العبادة ومنها الصوم من مفهوم انساني كبير. وكان الصوم خاصية ملازمه لهم. صوم السياسي ينتهي بعد انتهاء الشهر، حيث يعود الرفاه رفاها، كما يعود الفقر فقرا أكثر عمقا. ويتبدد تأثير شهر رمضان كما يتبدد تأثير الحج بعد العودة. شهر رمضان، كما هي شهور المسلمين المرتبطة بالمقدس، يتوجب أن يكون لها تأثير دائم، وليس مؤقتا ثم زائلا. لا شك فيما يقيمه المسلم من طقوس، حتى لو كان ساذجا في التطبيق والدوافع .غير ان سريرة المرء هي تتحكم في الأنسان من خلال فهم المعنى الحقيقي للصيام. الزيارة وأداء الطقوس الأخرى.
أن الصوم.. طقس .. ثم فريضة دينية.. لها مردودات بناء المجتمع لأنها ترتبط بحاجة الانسان لأخيه الانسان ليس من أجل حرقة الجوع، الذي لا يقود الى وعي جوع الآخر. صوموا.. فعل أمر يعني تجديد الطاقة الإيمانية ورائدها المحبة والسلام واختيار سبل البناء. وقد ذكر المصطفى حيث قال:- الانسان زرع الله في الأرض ملعون من خرب زرعه. ونحن نقول ليكن الصوم فريضة دينية تهدي الجميع لبناء الانسان.