عبود الجابري: أكتب ولا أنتظر من الشعر أية مغانم

حوار/ علي السومري

شاعر ومترجم وأحد الأصوات الشعرية البارزة في العراق، يقيم في الأردن منذ تسعينيات القرن الماضي، صدر له في الشعر (فهرس الأخطاء)، و(يتوكأ على عماه)، و(متحف النوم)، و(فكرة اليد الواحدة)، و(تلوين الأعداء)، و(في البيت وماحوله)، و(أثر من ذيل حصان)، و(فراغ بين فاصلتين)، مختارات شعرية، و(متحف النوم). تُرجم شعره الى العديد من اللغات، منها الإسبانية، والإنجليزية، والفارسية، والتركية.

غنت فرقة كورال بي بي سي واحدة من قصائده الشهيرة (Fading أفول)، بمصاحبة موسيقى المؤلفة البريطانية جوان مارش في العديد من مسارح العالم. أما في الصحافة فهو يكتب مقالين أسبوعيين في صحيفتي (الزمان) و(العرب) اللندنيتين.
إنه الشاعر عبود الجابري، الذي كان ضيف مجلة (الشبكة العراقية) عبر حوار لتسليط الضوء على منجزه الإبداعي، حوار ابتدأناه بسؤال:
* ما الشعر بالنسبة لك؟ أنت الكائن الذي لم تستطع مواجهة الحياة إلا من خلاله؟
– لا أعرف على وجه التحديد ماذا يمثل الشعر بالنسبة لي، فهو يمكن أن يعبر عن مسار حياتي، وربما يكون وسيلة لإيصال مشاعر ورؤى يصعب التعبير عنها بطرق أخرى، وأحيانًا يمكن أن يكون أداة تتيح لي تقبّلَ العالم، أو مواجهته من خلال الكلمات والصور، كل ما أعرفه أني أكتب ولا أنتظر من الشعر أية مغانم، وقد تكون مغانم الشعر الحقيقية في تلقي ما يكتبه الشاعر بحفاوة من قبل القارئ المجهول، القارئ الذي يتداول اسمك دون أن يكون على معرفة شخصية بك.
* كيف تقيّم الشعرية العراقية اليوم؟
– نحن أبناء اللغة، وإن عركتنا الحياة بتقلباتها، وقد مرَّ الشعر العراقي بمراحل من التحولات في الماضي والحاضر القريب، غير أنه يبقى محافظاً على تأثيره الثقافي العميق على المستوىين المحلي والعالمي، ورغم كل التحديات، ماتزال هناك أصوات شعرية عراقية لها دور كبير في تقديم رؤى جديدة ومبتكرة، تجمع بين التراث والمعاصرة.
* ثمة من يقول إن زمن الشعر انتهى في العراق، والزمن اليوم للرواية، ما رأيك؟
– ربما يشهد الأدب تحولًا نحو الرواية باعتبارها الجنس الأدبي الأكثر قبولاً في العالم، وليس في العراق حصراً، لكن الشعر له مكانته الخاصة، وقد يكون للخلافات المستمرة على الشكل الشعري بين الشعراء والنقاد والقراء أثرها في تحييد الشعر وانحسار شيوعه، رغم أن هذه الخلافات تمثل تحولات لابد منها لكل جنس أدبي، لكن المنازعات حول الشكل الشعري وضمور توجهات القارئ العربي والعالمي، هذا الضمور الذي تسبب في الانحياز إلى الرواية، جميعها تشترك في الإعراض عن الشعر ، لكني مؤمن بأن الشعر باق بأبهته الإبداعية وله قراؤه، فهو يمثل خلاصة فكرية وعاطفية تعجز الرواية في بعض الأحيان عن توصيلها.
* هل تعتقد بضرورة التجييل في الشعر، وما امتيازات جيلك؟
– أؤمن بالتجييل التاريخي ولا أؤمن بتجييل الشعر، لأن الشعر العربي عبر مراحله المتلاحقة كان ابن زمنه من حيث التناول، وقد أفضت الأحوال السياسية والاقتصادية إلى اللجوء لفنون عديدة من الكتابة الشعرية، كالقناع والرمز والسوريالية، رغم أصولها الغربية، لكنها كانت أدوات كتابة ترسم ملامح البلدان السياسية والاجتماعية بطبيعة الحال. التجييل يمكن أن ينطبق على الحركات الأدبية والمدارس الفنية التي غيرت ذائقة العالم، لكنه غير قابل للتوظيف أدبياً حين يتعلق الأمر بزمن الكتابة الشعرية والشعراء الذين كتبوا بيانات أو حصروا أسماءهم بجيل معين. والتجييل على أية حال ليس ميزة إلا بالقدر الذي يريده المراهنون عليه من تبجيل الشعر في فترة زمنية دون الأخرى، لأن الشعر في جوهره غير مرتبط بالعمر أو الزمن بشكل صارم، فلكل جيل محاولاته الخاصة وأصواته المتعددة وتأثيراته في التجديد المستمر داخل القصيدة.
* هل أثر غياب النقد في تطور الشعرية العراقية؟
– لم يعد هناك نقد بالمعنى الحقيقي لهذا العلم، هناك نقاد بعدد أصابع اليدين أو أقل، وهم يحفرون في مناطق يستهويهم البحث فيها لأسباب ذاتية، أو لأسباب تتعلق بوفرة مصادر البحث فيها، وعدا ذلك يمكن تصنيف ما يكتب من نقد على أنه عروض للكتب أو تقريظ للشاعر دون شعره، ولعلك تلاحظ أن هناك العديد من الشعراء يستحوذون على المنابر والمحابر والمؤسسات الثقافية، بين مزدوجين، ليس لأنهم مجددون، وإنما لأن وراء الأكمات الأدبية ما وراءها مما يشيع في عالمنا من نكوص، اجتماعيًا، لكنه ينتقل بالعدوى إلى تقاليدنا الثقافية، ما يقود إلى غياب النقد الجاد المستنير وتفاقم القطيعة بين الشعر والنقد.
* لو لم تكن شاعراً، أي العوالم الإبداعية ستختار؟
– علاقتي وطيدة بجميع العوالم الإبداعية من خلال القراءة والاطلاع والشغف، لكني وجدت نفسي شاعراً بعد أن منّيت نفسي أن أكون مغنياً في طفولتي، ولم يعد أمامي سوى المضي في هذا الطريق الشائك، مع محاولات هنا وهناك في أجناس أخرى تأتي مصادفة، أو حين يستعصي الشعر على الحضور بكامل قيافته.
* لنتحدث عن الترجمة، هل تترجم ما كنت تتمنى كتابته؟
– أترجم ما أقرأه وأجد فيه نفسي، هذه هي الحقيقة، والكثير مما تمنّيت أن أكون كاتبه، ولا أدعي أني مترجم محترف، لكني أعمل لنفسي من باب فتح النوافذ لتغيير هواء المنزل، لأن المواضيع التي يتناولها الشعر العالمي تختلف عن المواضيع التي نتناولها في أشعارنا، كالشعر الذي يعنى بالطبيعة، أو الشعر السايكوباثي ونصوص الانتحار، وأصناف أخرى من الكتابة الشعرية التي لا نجدها في دواوين شعرائنا.
* ما الذي منحه المنفى لك، وما الذي سلبه منك؟
-المنفى كتاب ذكريات مفتوح على صعيد الحواس جميعها، رغم أني لا أعتبر إقامتي في الأردن منفى، لأني لم أعش فكرة البلاد التي تتحدث بلغة أخرى واختلاف العادات والتقاليد، أضف إلى ذلك وجود العدد الهائل من العراقيين في عمّان وبقية المدن، وانخراطي المباشر بالمشهد الثقافي وعلاقاتي الوطيدة بأدباء ومثقفي الأردن والمؤسسات الثقافية. المنفى تجربة مليئة بالتحديات والفرص على حد سواء، لأنه يمنحك فرصة لاكتساب تجارب جديدة، ويجعلك تعيد النظر في تقييم حياتك وأهدافك الشخصية، ويدفعك للبحث عن طرق مختلفة للتعبير عن نفسك ويمنحك اصراراً على النمو الشخصي والمهني، مثلما يتيح لك الابتعاد عما يقيدك أو يقودك إلى ما يضر بحياتك إن بقيت في بلادك وأطلقت لسانك في تشخيص العثرات. صحيح أن المنفى قد يسلب منك الأمان الاجتماعي والمهني، ويولد لديك شعوراً بالغربة حين تنكسر روحك ويتلجلج الكلام في حنجرتك، مثلما يحرمك من الذكريات والأماكن التي تربطك بهويتك. المنفى تجربة معقدة تجمع بين ما يسلب منك وما تحصل عليه وما تسلبه، وتأثيراته تختلف حسب الشخص وظروفه وتجربته الخاصة.
* ما جديد عبود الجابري؟
– في مجال الشعر أنتظر أن تصدر لي مجموعتان شعريتان في الربع الأول من هذا العام، (فحم أبيض) و (كما لو أنه منزل يتهاوي)، الأولى من الهيئة المصرية للكتاب، والثانية من دارة الشعر في الفجيرة. وعلى صعيد الترجمة مازلت أعمل في اتجاهات مختلفة على صعيد الشعر والدراسات، لكني لا أعرف متى أفرغ من إنجاز ما بدأت به، فثمة حياة علينا أن نعتني بها، ونمنحها حقها من الجهد ليعيش أولادنا بكرامة، ذلك ما يجعلني أؤجل الكثير من المشاريع التي نويت، أو أنوي، إنجازها، لكني أعمل في الفسحة التي تمنحها لي يوميات العيش ومطاردة ما لا يمكن الإمساك به هنا، فإن استطعت فتلك هي جائزتي، وإن لم أستطع فحسبي أنني حاولت.