عادل مكي /
تعتبر مرحلة الخمسينيات هي الفترة التي ظهرت فيها ولادة أغنية أو أنشودة (الحرب) في العالم العربي، فبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أصبح هناك نمط جديد قدم فيه كبار الملحنين والمطربين الكبار أمثال محمد عبد الوهاب وكمال الطويل ورياض السنباطي وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ أناشيد تعبوية سميت بأناشيد الحرب لخدمة المعارك الدائرة رحاها وما تلاها، وقد شكلت تلك الأغنيات الحماسية، ليس في مصر فحسب بل في جميع بلدان العالم العربي،حالة حماسية جديدة لم يألفها الشعب العربي والمصري من ذي قبل، فخرجت ألحان مميزة مثل (لبيك يا علم العروبة) للفنان اللبناني محمد سلمان ونشيد (والله زمان ياسلاحي) الذي غنته أم كلثوم. تلتها حقبة الستينيات بظهور أغنيات الحرب الفلسطينية مثل أنشودة (طالعلك ياعدوي طالع) وأنشودة (كلاشنكوفي).
أما نحن في العراق، فلم يكن لدينا هذا التوجه، على اعتبار أن العراق كان بلداً آمنا مستقراً، وعندما تحين الضرورة كانوا يستعينون بالأناشيد المصرية لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ في أكثر المناسبات الوطنية أو الانقلابات المتعددة، التي كانت جاهزة لأي أمر مستجد، لأن الأغنية العراقية بحد ذاتها لم تكن واضحة المعالم حينها، فكانت ألحانها عبارة عن مذهب وكوبليه بنفس اللحن وبكلام سطحي في غالبية الأحيان. وكانت الأغنية البغدادية سهله بسيطة المعنى والمحتوى، الى أن غزتها بجدارة الأغنية الريفية متمثلة بأصوات حضيري أبو عزيز وداخل حسن وآخرين، لكنها امتازت بحلاوة أصواتها الفطرية وشجون ألحانها الحزينة، فحصلت حالة من التلاقح رغم اعتراض الكثير من (البغادّة) على ذلك الأمر، ثم حسم بتكوين أغنية عراقية رصينة بعد دخول ملحنين أكفاء وشعراء مخضرمين في كتابة النص الغنائي من حيث وحدة الموضوع والبناء التسلسلي الصحيح.
ولا يذكر لنا التاريخ أن هناك أنشودة عراقية خالصة إبان تلك الفترة سوى أنشودة واحدة هي (هربجي كرد وعرب رمز النضال) للملحن أحمد الخليل، وهو نشيد تغنى بالاتفاق الحكومي مع الأكراد في اتفاق عام 1970 بعد منحهم الحكم الذاتي.
ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، حينها لم يكن أرشيف الإذاعة يحتوي على أية أغنية أو أنشودة وطنية سوى نشيدين، أحدهما للشاعر اللبناني بشارة الخوري هو (ياتراب الوطن) ونشيد آخر هو (لبيك يا علم العروبة) وأناشيد أخرى لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
وفي غضون أيام معدودات صدرت الأوامر، وعلى عجالة، بتقديم أناشيد تمجد تلك الحرب بميزانية مفتوحة، وبناء على ذلك قدمت جمهرة كبيرة من الشعراء والملحنين والمطربين من الصف الأول أناشيد مختلفة لشحذ الهمم، باعتقاد أن هذه الحرب ستنتهي خلال أسبوع لكنها طالت لمدة ثماني سنوات من الفقد والضياع والموت والتشريد وآلاف الضحايا وآلاف الأرامل والأيتام.
توالت بغد ذلك الأناشيد والمهرجانات الشعرية والموسيقية، اتخذت فيها مختلف الأغراض الفنية ما بين الهوسة والدبكة والألحان السريعة ذات الإيقاعات التعبوية المختلفة التي بلغ عديدها بحدود 20000 أنشودة وطنية!
ولم تكتفِ الماكنة الإعلامية بذلك، بل دعي العشرات، او المئات من الفنانين العرب، أمثال وردة الجزائرية وسميرة سعيد وسوزان عطية وعبد الله رويشد وخالد الشيخ ورباب الكويتية لإقامة المهرجانات الموسيقية وبأموال طائلة صرفت من خزينة الدولة العراقية . بالإضافة الى تكوين فرق غنائية متعددة مثل فرقة المسرح العسكري وفرقة مسرح الطيران والفرقة النغمية وفرقة مطربي الريف وفرقة الأطفال.
لقد انعكس هذا الأمر على حياة الفرد العراقي الذي تعسكر رغماً عنه، فالأنشودة الوطنية صارت تبث من الإذاعة ومن التلفاز وفي رفعة العلم وفي الحفلات والأعراس، لهذا باتت الأغنية العراقية العاطفية في فترة الثمانينيات مهملة او مغيبة، إلا ماندر، وبمحاولات قد تكون خجولة بسبب انشغال الشعراء والملحنين بتقديم فروض الطاعة لدعم الحرب الطاحنة رحاها في شرقي البلاد.
وبرغم تلك الظروف برزت أغنيات عاطفية تحمل في طياتها الشجن العذب رغم قلتها، لكنها شكلت علامة فارقة وانعطافة كبيرة من خلال التسجيل في ستوديوهات القاهرة في مصر، وبتمويل من شركات عربية كبيرة او من خلال برنامج (أصوات شابة) الذي كان يشرف عليه الفنان فاروق هلال، فخرجت إلينا أصوات معبرة وكبيرة مثل كاظم الساهر ومحمود أنور وعلي جودة وقاسم إسماعيل وآخرين. ومن خارج البلاد قدم الفنانان فؤاد سالم وقحطان العطار أغنيات عذبة تحمل في جنباتها الشوق والاحتراق للوطن في ألحان ستظل خالدة لأنها كانت تحمل رسائل مشفرة عما يعانيه الإنسان العراقي المغيب داخل وخارج الوطن، إذ استشعر الفنان العراقي ذلك الوجع فجسّده بعذوبة وحزن دفين.
لقد كانت أغنيات تلك الفترة العصيبة تمثل مرحلة خطيرة من تاريخ العراق المعاصر، ولولا تلك الحرب اللعينة الدامية لخرجت ألحان كبيرة بمعانيها وعميقة بدلالاتها (الأغنية السبعينية أنموذجاً)، ولم يقف الفنان الحقيقي مكتوف الأيدي بل صنع من المستحيل أغنيات رغم قلتها لكنها كانت مؤثرة وكبيرة. وهو الأمر الذي دفع من رفض الاندماج مع هذا التوجه التعبوي لحرب غير مبررة، الى اتخاذ موقف، فتغرب من تغرب وهاجر من هاجر من الفنانين في شتى أنحاء المعمورة بعيداً عن شبح الموت، فهاجر فؤاد سالم الى الكويت وقحطان العطار الى أوروبا وفاضل عواد الى ليبيا وسامي كمال وجعفر حسن الى اليمن، وغيرهم كثير.
ورغم هذا الأمر بقيت الأغنية العراقية تحمل في جنباتها الولع الدفين تجاه كل ما يخص العراق الجميل لأنها سمة ميّزتها عن باقي أغنيات الوطن العربي، فهي وليدة ذلك الإرث الغنائي الهائل من الأطوار والأنغام والمقامات التي من الصعب لغير العراقي إتقانها، فالأغنية العراقية قد تمرض، لكنها لا تموت، لذا بقيت وستظل تسجل للتاريخ مراحل تطورها عبر الحقب والأزمان بالرغم مما مر بها من حروب وانتكاسات متلاحقة.