عادل مكي/
كان لابد من العثورِ على مسّ التعويذةِ البابليةِ وإكسير الحياة السومري المتخثر بالأبدية النوابيَّة، فالخلود داخل خوارزميّة اللحن العظيم لا يحقق مبتغاه الفطريّ وحسّه اللاشعوري المدجن بأنغام الوجع وترانيم التشظي، إلا من خلال الرموز المشفرة والمحسوسة بين سطور الكلمات الملتهبة، فكيف إذا كانت هنا (نوابية) الشعر محطته التي طالما حلم بالوصول إليها.
فقد استطاع هذا الفتى الجنوبي، ابن مدينة الناصرية، ملهمة المبدعين، الفنان الذي يكرر التفوق بثقة على كل مقاييس الغناء واللحن العراقيين الشجيين بلون محدث وجديد، وبروح عراقية خالصة لم تكن مألوفة قبله، فهو بحق معجزة لحنية وصوتية عذبة ينتقل فيها بسلاسة الكبار الواثقين الخطى، استطاع هذا الفتى ان يفكك خوارزميات الكبير مظفر النواب ويتمشى بين سلالم الموسيقى بما يمتلكه من طاقة مخزونة خامدة، توهجها براكين الوجد المتراكم. ولا عجب.. فهو امتداد لجيلٍ متوارثٍ من خزينٍ هائل استمد معظم أحزانه المترعة من مرثيات كربلاء الحسين، ككينونة لأوجاعه الثكلى، وكواكب لأنينه الذي ما فارق مخياله.
ببعض مما ذكر، فكك طالب القره غولي خوارزميات وأحجيات قصائد مظفر النواب حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، مستكشفاً فيها مكامن الوجع الخفي، وصورها تصويراً لحنياً سلب به الألباب، وفتح بألغازها جزر الوجد الدفين الكامن في أرواحنا من قرون خلت، واستكشف لنا جواهر اللؤلؤ والمرجان المختبئة تحت طيات الاختباء القسري، التي كانت ممنوعة ومحرمة من قبل السلطة القمعية بأجهزتها الأمنية المتعاقبة. لكن الغريب في الأمر هو أن تلك الأغاني قد سجلها القره غولي في ستوديوهات الإذاعة الرسمية، دون أن يسأله أحد عنها، وهذا سر يحسب لعبقرية القره غولي، الذي مررها وسجلها لتنتشر كنار الشوق في حطب الوجد، دون أن يلاحقها مقص الرقيب او المنع، لأنها ببساطة شديدة كانت تحفاً فنية غاية في الجمال، سحرت وأسكتت أفواه وآذان المخبر السري، والمتابع الأمني الذي أصابه الانبهار وإن لم يعلن ذلك، فسكت وتغاضى، لفرط الشجن الكامن فيها.
من أشياء تشبه تسابيح السحرة، صنع القره غولي أيقونات لحنية، وأمسك بلجام الكلمات رغم صهيلها المدوي، فطوَّعها كصائغ كظماوي تعامل مع قطع نادرة من حلي ذهبية بميزان الذهب، مع نوابيات تلك القصائد الممسرحة، فجاءت (حيل اسحن كليبي سحن) بداية الثورة الغنائية في الأغنية العراقية الكبرى التي أحدثت انقلاباً، أو أنها قلبت الطاولة على كل ماهو سائد من الرتابة والتكرار، مترجماً بذلك الثراء البلاغي والشاعرية الفذة في كلمات مظفر النواب، الذي خرج عن المألوف والنمطية والجمود، متحرراً من الأوزان والقافية، ومتمرداً في ذات الوقت على الحاضنة الشعرية، لأن شعر النواب قد تخطى قواعد المنظومة السائدة.
وبفراسته، أدخل القره غولي إيقاعات مميزة قريبة من روح العامة، مما كانت العرب تستعمله في كلامها القديم، شعراً ونثراً وسجعاً، كانت سبباً في جذب انتباه طالب القره غولي للنواب، رغم أنهما لم يلتقيا أبداً، لكن باجتماعهما تشعر أن هناك كيمياء أثيرية ربطت بينهما، إذ أن شعر النواب امتاز بالخروج عن الميوعة والفجاجة بكلمات عذبة، لذلك فقد فتحت ألحان طالب القره غولي لشعر مظفر النواب آفاقاً جديدة ومديات مشبعة بالوجد، فكلما دندن عود القره غولي بأغاني النواب، التي لم تكتب أساساً كقصائد أغانٍ، وإنما كتبت كقصائد نوابية خالصة، ملحنة، تشعر بأنك تبحر ضد تيار ما، لأن كلمة النواب المغناة توجع، لأنها مشبعة بأسى وألم ممتد لوجع فقد عشبة الخلود.
لذا ليس بمستغرب، وأنت تسمع جمال أنين كلمات (حيل اسحن كليبي سحن وغركني بالهم والحزن)، وتارة أخرى، (مرينه بيكم حمد واحنه بقطار الليل، واسمعنه دك اكهوه، وشمينه ريحة هيل).
لقد فتح النواب مع القره غولي كل أبواب الإبداع الموصدة، عبر غزارة المعنى وحلاوة اللحن التطريبي الذي غمر الأرواح المتعبة بشي من النشوة تجلت بالروح إلى مصاف (النيرفانا).
لقد تربع القره غولي على عرش الكمال اللحني بعد أن اشبع روحهُ من تلك القصائد التي اكتفى منها بعيون القلادة، وكأنه يقول “حققت ماكنت أصبو إليه، فقد أمسكت بلجام (عين الگلادة)، لأهم ما كتب النواب، تلك التجربة الأعمق والأهم في تاريخ الغناء العراقي، وبعبقرية لحنية إبداعية قلما تتكرر.” ولكي لا يكرر نفسه أخذ يملي ما يريده بتجارب أخرى ثرية، تقترب -إلى حد ما- من مساحة ما نهل منها ونجح، وذلك بتعاونه مع زامل سعيد فتاح وكاظم اسماعيل الكاطع وآخرين. فقد كان طالب القره غولي ذكياً جداً عندما لجأ إلى ساحة ومنطقة النواب، كونها حالة متفردة وجديدة، فهو كتب الشعر بطريقة (الحسچة الجنوبية)، وهو ذلك الفتى الكظماوي من عائلة النواب العريقة التي سكنت مدينة الكاظمية في بغداد، الذي تنقل ردحاً من الزمن بين أهوار الجنوب وأهلها الكرام، مطارداً ومتخفياً عن أعين أذناب السلطة الحاكمة بتهمة الانتماء المعارض والثوري ضد الأنظمة الفاشية والدكتاتورية المتلاحقة التي كانت تبحث عنه في كل مكان. عاش النواب هناك بين أعواد القصب، وكتب بلغتهم وبلكنتهم التي تشعرك برقة أمواج الهور التي تنساب (بهيدة)، ليكتب أجمل وأرق وأعذب القصائد الشعبية العراقية، التي أصبحت مناراً و قاموساً للشعر والجمال. وحتى عندما سألوا النواب مرّة عن طالب القره غولي كان جوابه فرحاً به وبتجربته الناجحة الرصينة، لأن طالباً، وبحسب المعطيات اللحنية، قد رسخ مفهوماً وأسلوباً جديدين يضاهيان سنباطيات السنباطي وموجيات الموجي وبلاغة بليغ حمدي في صياغة المقدمات الموسيقية الطويلة والتحول من مقام إلى آخر، وتعدد الإيقاعات في اللحن الواحد للأغنية العراقية، التي جدد فيها ببراعة من خلال الحنجرة الشجية للفنان ياس خضر، هذا الصوت الذي (هذّبه وشذّبه) بعد أن كان صوتاً ريفياً نائحاً باكياً فقط، وقدمه بروائع لحنية غنائية لا تنسى.
لذلك، وفي خضم تلك المعطيات والإرث الفذّ، سنحتاج بلا شك إلى مئة سنة مقبلة.. أقل أو أكثر، لكي نحظى بمثل هذا التلاقح الإبداعي الغريب والانصهار العجيب بين شعر قد يشبه شعر النواب، وبين ألحان قد تشبه ألحان القره غولي، وبين أصوات غنائية شجية كصوت ياس خضر، لنزنَ بها معادلة صنع الجمال والكمال الفني، ولا شك في أن الأزمنة حبلى بالمفاجآت برغم صعوبتها وندرتها في هذا الزمان.