جواد سليم/
معمارية وكاتبة عراقية، ولدت في واحدة من أجمل المدن العراقية وأكثرها جاذبية (البصرة) وتحديدا في (المعقل) التي تقع على شط العرب، حيث الهدوء والطبيعة الخلابة والهواء الذي يمتزج بعطر الزهور المنتشرة في شوارعها وأزقتها، وروعة السفن في موانئها التي ترسم لوحةً تشبه بطريقة ما لوحات فان كوخ، انها المهندسة العراقية (فاتن الصراف) التي كان لمجلة “الشبكة العراقية” معها هذا الحوار:-
* فاتن الصراف، نقول المعمارية أم الكاتبة؟
– انا معمارية، بحكم تخصصي.
* حدثينا عن طفولتك وشغفك بالرسم والعمارة؟
– الطفل في العادة لايفهم الكثير مما يدور حوله، على الأقل في زماننا الذي لم يعرف الكومبيوتر والهواتف النقالة، ورغم اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وانا في سن الثالثة عشرة، وماتبع ذلك من معاناة لأهل البصرة تحديداً، لكنني مازلت أحتفظ بذكريات البراءة التي عشناها في طفولتنا، وكانت جميلة حقاً. كنت مشاغبة من الطراز الأول رغم تفوقي في الدراسة، لكني لم أفوّت أية فرصة للمرح واللعب، رغم الحرب والخراب الذي كان يحيطنا.
أما عن شغفي بالرسم والعمارة، فقد تستغرب إِنْ قلت لك انني لم أكن أحب الرسم، ولم أكن أتمتع بتلك الموهبة، رغم ارتباطها بالعمارة الى حد ما. لكني كنت أعشق المباني التراثية في مدينتي بكل تفاصيلها، ومنها منزل جدّي في منطقة مناوي باشا. وقد تأثرت أيضاً بتخطيط وتصميم الحي السكني الذي كبرتُ فيه- المعقل ذي الطابع المعماري الإنجليزي، وربما كان ذلك حافزاً لي لدراسة الهندسة المعمارية. كنت احصل على أقل الدرجات في درس الرسم خلال المرحلة الابتدائية والثانوية، ولم أجرّب استخدام الريشة والألوان قبل ان أدرس العمارة، وكانت البداية من هناك. شغفي بالفن لم يتوقف منذ ذلك الحين. مازلت أحرص حتى الآن على الاطلاع على الحركات والمدارس الفنية المختلفة، ومتابعة أعمال الفنانين بشكل عام. أقتني باستمرار اللوحات الفنية، والكتب الفنية والمعمارية، التي أصبحت تحتل جزءاً كبيراً من مكتبتي.
* تعرضتِ لإصابة في كتفك جراء الحرب في ثمانينات القرن الماضي، ما أثر هذه الإصابة في حياتك؟
– لم يكن تأثير ذلك الحادث كبيراً، مقارنة بتأثير النزوح وكل ماكان يجري في مدينتنا. أن تُصاب بشظية فقط، فأنت محظوظ، مقارنة بواقع الموت واليُتم والخراب الذي طغى على البصرة وأهلها. لكن النزوح أثّر بشكل كبير في حياتي، ورسم لي طريقاً مغايراً تماماً لما كنت أخطط له. لم أعد أذكر عدد المرات التي نزحنا فيها خلال الحرب أو بعدها، يبدو انه قدرٌ لم ولن أتمكن من الفرار منه.
* هل لنزوحك، من البصرة الى بغداد، تأثير في مواصلة المسير لتحقيق أحلامك؟
– كنت حينها في السنة الثالثة من دراستي الجامعية في بغداد. ورغم كل المصاعب التي واجهتُها وعائلتي حينها، لكني لم أفكر في الاستسلام، ربما كنت بحاجة لتعويض ماخسرته.
* ما الصعوبات التي واجهتِها كامرأة تعمل في مجال يعُدهُ البعض حكراً على الرجال؟
– صعوبات كثيرة بالطبع، كل عمل يقوم به المرء لايخلو من المصاعب والتحديات، غير أنّ على المرأة في مجتمعنا ان تعمل بشكل مضاعف، لتثبت نفسها وتترك بصمتها. الرجل يضع الهدف أمام عينيه، ثم يعمل لتحقيقه. اما المرأة، فهي تشق طريقها بصعوبة بالغة، لأن هناك دوماً من يحاول أن يجرّها الى الوراء، فتجدها تتقدم خطوة الى الأمام وتتراجع خطوتين. مجتمعنا للأسف الشديد لايثق بالمرأة وقدراتها، ولذلك فهو يخص الرجل وحده بفرص العمل والمناصب المهمة.
* غادرتِ العراق بشكل مفاجئ في تسعينات القرن الماضي، هل كان لطموحاتك أثر على قرارك هذا؟
– لم أغادر العراق بشكل مفاجئ، ولم يكن يخطر ذلك ببالي، لكني تعرضت للتهديد خلال تنفيذي لأحد المشاريع في العام ١٩٩٨، ولم يكن أمامي خيار سوى الرحيل. بالطبع كانت لدي طموحات كثيرة لم يكن بالإمكان تحقيقها وسط ظروف الحصار الاقتصادي، لكن ذلك لم يكن السبب الرئيس لمغادرتي العراق.
* إثبات الذات والعمل في الغربة صعب، ما التحديات التي واجهتِها في مسيرتك المهنية خارج العراق؟
– لا أعرف إِنْ كان باستطاعتي أن أختصر الجواب هنا، لكنها تحديات كثيرة جداً. الحصول على فرصة عمل، وتأمين دخل يضمن لك العيش بكرامة في بلد غريب، أمرٌ صعب، لكنه بالتأكيد أكثر صعوبة بالنسبة لفتاة بعيدة عن وطنها وأهلها. لكني حاولت ان أتحايل على تلك الصعوبات وأتحدّى نفسي. لم أكن أنظر للخلف، رغم الفشل الذي واجهته في بداية مسيرتي المهنية. كما اني لم أكن أقارن نفسي بالآخرين، ولم أحسدهم على ظروفهم التي كانت أفضل بكثير من ظروفي. قناعتي بما لديّ من قدرات وطموحات، رغم إمكانياتي المادية البسيطة، كانت المفتاح لتخطّي العراقيل التي واجهتها.
* هل تختلف عن تحديات العمل في الوطن؟
– بالتأكيد، إن واجهت الفشل أو تعثّرت في عملك وانت في بلدك، فلديك الأهل والأصدقاء ليقفوا الى جانبك. أما في الغربة، فأنت تواجه مصيرك لوحدك. كما ان عليك ان تقبل ببعض التنازلات التي يقتضيها العمل وقوانين البلد الذي تعمل فيه.
* ما هي أهم انجازاتك المعمارية؟
– خلال العشر سنوات الأولى بعد تخرّجي، عملت ضمن فريق حملة إعادة الإعمار التي أعقبت حرب الكويت، وقمنا حينها بإعادة إعمار العديد من المصانع. كما كنت ضمن فريق عمل برج المأمون، وتوسعات أبنية جامعة بغداد في الجادرية. ساهمت بتلك المشاريع من خلال عملي في منشأة الفاو العامة، وكان ذلك قبل ان أفتتح مكتبي الخاص في بغداد (مكتب الصراف للهندسة والمقاولات) في منتصف التسعينات. عملت من خلال هذا المكتب في مشاريع عديدة، مثل تصميم وتنفيذ العديد من الدور السكنية على نهر دجلة، بالإضافة الى مشروع إعمار مصرف الرافدين في شارع الرشيد، وكان هذا المشروع أول مناقصة تفوز بها فتاة في بغداد، كمقاول خاص.اما خارج العراق، فقد عملت في بعض المشاريع في الأردن، مثل مبنى شركة الهواتف المحمولة (موبايلكوم/ أورانج) وبعض القصور الملكية. أما في دولة الامارات، فقد ساهمت بتصميم وتنفيذ مشاريع عديدة. من ضمنها برج بنك أبو ظبي الوطني، قصر الرئاسة، والعديد من المشاريع السكنية والفنادق والقصور. كما قمت بتصميم وتنفيذ العديد من المشاريع في أربيل والسليمانية، ومشروعين في سيدني/ استراليا. بعض تلك المشاريع كانت معمارية، لكن أغلبها كان مشاريع تصميم وتنفيذ داخلي، من خلال شركتي المتخصصة بهذا المجال والتي أسستها عام ٢٠٠٩ في دبي.
* للخوذة والجينز علاقةٌ وثيقةٌ بك، هل أثرت هذه العلاقة عليك كأم وزوجة؟
– أمرٌ طبيعي ان يؤثر عملي وهوايتي على حياتي كزوجة وكأم، فبحكم تواجدي في المكتب ومواقع العمل لساعات طويلة، واضطراري للسفر في الكثير من الأحيان، بالإضافة الى الكتابة والقراءة، كل ذلك يتطلب الكثير من الوقت والجهد والتركيز، وهذا ينعكس دون شك على التزاماتي تجاه عائلتي، لكني محظوظة جداً بعائلتي الصغيرة، زوجي انسان متفهم لطبيعة عملي كونه يعمل أيضاً في مجال الهندسة، وهو يقف دائماً الى جانبي، وابنتاي تتفهمان غيابي وانشغالي، وتفخران بعملي ونجاحاتي. لكني مع ذلك، أحاول قدر الإمكان ان أمنح عائلتي الوقت الكافي لرعايتهم والاهتمام بهم، رغم اني أشعر دائماً بالتقصير تجاههم.
* (شجرة البمبر )، كتابك الذي صدر، لماذا هذه الشجرة بالذات؟
– شجرة البمبر سردية شخصية، أما الاسم فقد اخترته لسببين، الأول ان هذا الكتاب كان عن يومياتي وذكرياتي، وقد اخترت هذا العنوان لأَنِّي أشعر في الكثير من الأحيان ان هذه الشجرة تشبهني الى حد ما، فهي صبورة، وتتحمل الظروف القاسية. أما السبب الآخر، فهو لارتباط هذه الشجرة بحادث تعرض منزلنا في البصرة للقصف، تلك الشجرة كانت مزروعة في حديقة المنزل الخلفية، وهي التي أنقذت حياتي.
* ما الهدف الأساس الذي تطمحين أن يصل الى القرّاء؟
– حاولت ان أشارك القرّاء تجربتي الشخصية، بكل مافيها من تناقضات ونجاحات وخيبات، وكنت سعيدة بهذه التجربة. فمن خلال الرسائل التي وصلتني من القرّاء على اختلاف أعمارهم وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية، عرفت ان الكتاب قد حقق هدفه الى حدّ ما، وكان دافعاً لتحفيز الآخرين من أجل السعي لتحقيق أحلامهم والتشبث بالأمل، رغم الظروف الصعبة التي يمر بها البلد، وهذا بالتأكيد أسعدني جداً.
* في بعض وريقات شجرة البمبر سرد عن البصرة وبغداد وأبنيتهما؟ هل اثرت العمارة في هاتين المدينتين في بناء شخصية فاتن الصراف المعمارية؟
– بلا شك، البصرة وبغداد مدينتان عظيمتان، تزخران بأبنية مهمة، وتتميزان بتخطيط حضري متفرّد. ورغم التطور الذي يحدث في العالم وخاصة في مجال العمارة، لكني مازلت متأثرة بالنسيج الحضري لهاتين المدينتين، والتفاصيل المعمارية البصْرية والبغدادية.
* من هو مثلك الأعلى في الهندسة المعمارية، على الصعيدين العراقي والعالمي؟
– كل معمار ترك أثراً في توجهاتنا الفكرية، وكل أستاذ تتلمذنا على يديه ترك بصمة فينا. لكني أحب كثيراً أسلوب ميس فان دير روو، و فرانك لويد رايت. أما على الصعيد المحلي، فقد تأثرت بأستاذي الدكتور خالد السلطاني، وانا اتابع بشغف جميع مقالاته التي ينشرها عن العمارة والمدارس المعمارية، كما أحرص على اقتناء كتبه التي تطرقت للعمارة المحلية والعالمية.
* جنيت ثمار نجاحك في (شجرة البمبر)، هل يذكرك طعمه بثمرها؟
– ثمرة البمبر حلوة المذاق، لكنها لزجة أيضاً. كتاب شجرة البمبر كان أول ثمار نتاجي الأدبي، وبالتأكيد له نكهة خاصة. لكني بعد نشر الكتاب، تحررت منه وأصبح ملكاً للقراء. أتمنى ان لايلتصق بي كما تفعل ثمار البمبر.
* في غصن من اغصان البمبر تحدثتِ عن الحب والتفاؤل والأمل، هل حققت فاتن الصراف كل احلامها؟
– أحلامي كثيرة، والمشوار مازال طويلاً. أتمنى أن أحظى بالوقت الكافي لتحقيقها، فالحياة قصيرة كما تعرف.
* هل سنشهد انجازاً أدبياً أو معمارياً جديداً لفاتن الصراف؟
– أعمل حالياً على تصميم أحد المشاريع السكنية المهمة في دولة الامارات العربية المتحدة، كما أنّني فرغت قبل مدة قصيرة من كتابة روايتي الأولى. عالم الرواية عالم صعب للغاية، ولم أتصور يوماً اني سأخوض يوماً هذه التجربة. أنجزت روايتي التي بدأت بكتابتها قبل سنتين، وسوف تُنشر قريباً. أتمنى ان تحظى بقبول القرّاء والنقاد.
* ثمرة اخيرة من شجرة البمبر لمن تهدينها؟
– لروح والدتي.