أحمد جودة كاظم /
تعد حضارات بلاد الرافدين، وبالأخص الحضارة السومرية، من أقدم الحضارات التي أبدعت في شتى مجالات الحياة، فابتكرت الكثير من المنجزات الحضارية أسهمت في رقي الحياة الإنسانية وتطورها.
والفكر الديني الذي عرف عند السومريين أحد أبرز الأفكار التي كان لها أثر في الحياة العامة لسكان بلاد النهرين. وقد شغلت فكرة الموت والخلود وعالم الأموات (العالم السفلي) حيزاً كبيراً من هذا الفكر، وهي نقطة البداية لكل تفكير فلسفي على الإطلاق، ونجد أثر ذلك واضحاً في نتاجهم الأدبي (كملحمة كلكامش في بحثه عن الخلود وملحمة آدابا ونزول عشتار إلى العالم السفلي) وفي الطقوس الشعائرية المقدسة أيضاً.
الفكر الديني عند السومريين
الموت في الفكر السومري وفكر الحضارات التي تلته يمثل أقسى درجات القسوة التي يتعرض لها الإنسان، وقد شغل جانباً مهماً من تفكيره كونه يعالج مشكلة أساسية من مشاكل الوجود، لذا فإن مبدأ حساب الإنسان على أعماله كان يتم في الحياة الأولى وليس بعد الموت “لأننا لا نستطيع أن نعطي للموت معنى إلا إذا أعطينا معنى للحياة” هذا ما ذكرته الدكتورة مريم عمران في كتابها.
لقد قدر الموت والفناء للبشر والخلود والبقاء للآلهة، هذا ما ورد في ملحمة كلكامش عندما تقول صاحبة الحانة لكلكمش “إلى أين تسعى يا جلجامش، إن الحياة التي تبغي لن تجد، حينما خلقت الآلهة العظام البشر، قدرت الموت على البشرية.” وهذا ما يفسر لنا اهتمام السومريين الكبير بالحياة الدنيوية واهتمام ملوكهم ببناء المعابد للآلهة وحرصهم على تزيينها وتقديم الهدايا والقرابين لها في محاولة منهم لاسترضاء الآلهة كي تمد في أعمارهم. وتشير النصوص السومرية، لاسيما الأدعية والتمنيات التي يطلبها الملوك أو الأمراء بعد الانتهاء من سرد أعمالهم الحربية أو العمرانية من الآلهة، الى أن تمنَّ عليهم بالمزيد من الفتوحات والذرية الكثيرة وطول الحياة وهي فكرة ما زالت مستمرة في الثقافة العراقية، إذ كثيراً ما نجد من يستخدم الأدعية والقرابين للخالق كي يزيد في رزقهم ويمنحهم الذرية ويمد في أعمارهم.
لم يكن الموت عند السومريين بمعنى الفناء المطلق بقدر ما كان يعني انفصال الروح عن الجسد وانتقالها إلى العالم السفلي وهو عالم اللاعودة حيث تمضي جميع أرواح الأموات دون تمييز، فلا فرق بين الصالح و الطالح وبين غني أو فقير أو بين ملك ورعيته، إلّا أن مكانة كل إنسان في العالم السفلي تقاس بمعايير معينه ممكن من خلالها أن يحتفظ بنفس المكانة التي كانت له في الحياة الأولى، ففي أحد الألواح السومرية ورد انّ أحد الملوك قام بتقديم القرابين والهدايا إلى آلهة العالم السفلي, وكيف انّه اقتيد إلى مكان تمّت تهيئته خصيصا له هناك حيث البقاء الأبدي الذي لا عودة منه ولا يوجد فيه لا بعث ولا حساب، وتذكر المصادر أيضاً أنه كلما زادت ذرية الميت تحسنت مكانته.
العالم السفلي
أما عن الدخول إلى العالم السفلي فيكون عن طريق فتحات في الأرض كتلك التي تشرق منها الشمس والفتحة التي تغرب منها أو من القبر. بعد نزول روح الميّت إلى ارض اللاعودة يصادفه نهر العالم الأسفل وسمّاه السومريون بـ(هابور) وهناك يحييه ملّاح النهر (هامو طابال) ذو الأربعة رؤوس الشبيهة برأس الطير وينقله في قاربه إلى الطرف الآخر حيث بوابات مدينة الموتى.
وعالم الموتى حسب الأساطير السومرية عالم حصين خلف سبعة جدران عالية وسبع بوابات حصينة عليها حراس شداد غلاظ، وعندما يقترب القادم من البوابة الاولى، يعلن البواب اسمه لتسمعه اريشكيكال (إلهة العالم السفلي)، ثم يقاد عبر البوابات السبع، وعند كل بوابة يتخلى عن شيء من متاعه وملبسه وزينته وفق القوانين الموضوعة لذلك العالم ثم يمثل عاريا أمام اريشكيكال و”الانوناكي”، وهم كبار آلهة العالم الأسفل لتقرير مصيره ومكانه ووضعه العام في عالم الأموات، هذا ما تذكره قصة نزول أنانا إلى العالم السفلي.
أكدت جميع الديانات السماوية الموحدة على أن رحلة الإنسان المؤقتة في الحياة الدنيا مهما طالت لابد وأن تنتهي بالموت الذي قدَّرَهُ الله الإله الواحد للكائنات الحية، ومنها الإنسان وهذا ما رأيناه في الفكر الديني العراقي القديم مع وجود بعض الاختلافات البسيطة.