زياد العاني/
بمناسبة أربعينيته، اقامت نقابة الفنانين العراقيين معرضاً استعادياً للراحل د. عاصم فرمان على قاعة غاليري النقابة في بغداد، تلت الافتتاح فعالية إيقاد الشموع إحياءً لذكراه الخالدة، ومن ثم أقيمت جلسة تأبينية موسعة حضرها أفراد أسرته ونخبة من الفنانين والإعلاميين والمحبين.
قدم الجلسة الدكتور زهير صاحب بمشاركة من أصدقاء الفقيد التشكيليين المقربين، ومنهم د. نجم عبد حيدر، و د. محمد الكناني، و د. جبار خماط، و د. فاخر محمد، مع حضور د. علي عويد المدير العام لدائرة الفنون العامة في وزارة الثقافة. ومن بين الكلمات المؤثرة التي قرئت عن الراحل عاصم فرمان وحركت مشاعر الحضور إلى درجة البكاء، تلك التي كتبها وقرأها د. مكي عمران، وجاء فيها: “إليك أيها الأبي، مثلَ شهدٍ يتقاطرُ من فمِ طفلٍ مدلَّلٍ لمْ يقوَ على الكلامِ، تساقطتْ حزمُ الأماني برحيلِك أيّها الأبي، أيّها المكلومُ فينا. كم هي عسيرةٌ على البوحِ أحرفٌ ترتجيك وأنتَ في المدى الرهيب (الغياب)، وما حجمُ المرارةِ عندما لا يقوى العقلُ على تقبِّلِ فكرةِ الرحيل، أحاولً مِراراً أنْ ألثُمَ وجهَ تلكَ الفكرةَ المؤلمةِ تلك بالتناسي لأرتشفَ الحنينَ في ذكراك. لا أدري كيف تزدانُ أرصفةُ الكرّادةِ بالندى، وأنت لمْ تمرَّ بها البارحة؟ كيف للمقهى أنْ يتنفَّسَ وما عاد دخانٌ يصعدُ من زاويتِك المفضلةِ؟ أتعلمُ يا عاصمُ أنَّ النادلَ مازال يحضِّرُ طلباتِك خِلسةً كلَّ يومٍ دونَ أنْ يعلمَ ابنُ وتوتَ بذلك؟ نعم.. نعم مررتُ من هناك، ولكنْ لم تحملْني قدماي على الدخول.. شممتُ عبيرَ روحِكَ تتهجّى الزوايا والعيون، وسؤالَك الحريصَ عن الجميع، لأنَّك المفتونُ بإزالةِ الهمومِ عن وجوهِنا، لأنَّك الغيثُ والجودُ الذي يفيضُ على الجميع. كان محياكَ يبتسمُ وقتَها.. ترتدي سترةً رصاصيةً فاتحةً ذات خطوطٍ سود تتركُ مربعاتٍ لم تملأُ بعدُ من جمالِ خصالِك، وأنت تُشيرُ بيديك.. إدلفْ إلى هنا.. أنظر.. كلّنا نجلسُ قربَ الزاوية، وسوف يتوافدُ المعتّقون ـ عسلُ الموائدِ ـ من بقايا الأحبّة. يا أخي، يا أبا الحارث: رفقاً بنا، ألمْ تقلْ لنا سوف آتيكم بعد المقيلِ (طقسي المقدس). ها هي الأربعون يوماً انقضت أيها الأمين، وأنت لم تأتِ إلينا، إلى أينَ أنت..أتلوذُ في خاصرةِ الصمتِ الرهيبِ بمستطيلٍ منخورٍ في جسدِ الأرض؟ ماذا نفعلُ للحواراتِ التي بقيتْ خرساءَ في أقبيةِ الثواني وحراجةِ الأسئلةِ؟ طلباتُك.. مشاريبُك في المقهى، (نقاط الحبر) تبحثً عنك ومازالتْ تئنُّ على قارعةِ الطرقاتِ، تتساءَلُ عن فيضِ حروفِك في عالمِنا المفترضِ أنْ يكونَ حقيقياً، لا نملكُ سوى مراراتِ الذكرياتِ وآثارَ ابتسامةٍ تلوذُ بين موائدِ الصحبةِ، وفي الزوايا كلمةُ (ثُوَلْ) تتحشرجُ في الأفواه، أيّها المعجونُ بطينٍ (حريٍّ)، أعرفُكَ جيداً، لقد ذبحَكَ حبُّ العراقِ وأجهزَ على بقايا نياطِك شبلٌ جميل ٌرقيقٌ لا تقوى رئتيه على حملِ ذراتٍ من هواءِ وطنٍ مفتون ٍ بابتكار ِالأسى والإقصاء.
نمْ قريرَ العينِ، فدوّامتُنا تسيرُ لوحدِها، واللاهثونَ حول أتربتِها مازالوا على سجاياهم، والمنعّمون بالصمتِ تطوِّقُهم العزلةُ، والحالُ هو ذاتُه بانعطاف، والغمائمُ السود قادمةٌ لا مَحالة، بعد أنْ لوَّنتْ شوارعَ الأخوةِ بالدماءِ، والعالمُ العربي يغطُّ في سباتِه القديم، نمْ قريرَ العينِ فلا رجاءَ لعينِ طفلٍ تحت ركامِ برجٍ سكني. الرحمة والمغفرة والجنان لروحك النقية.. يا أخي الأغلى.”
تخلل الجلسة عرض فلم عن شخصية المرحوم، وسيبقى المعرض مفتوحاً يومياً أمام الجمهور لمدة شهر عدا يوم الجمعة من الساعة الثانية ظهراً حتى السادسة مساءً.