صلاح حسن /
كما تطلّ نوافذ المرسم على حقول المخيّلة واختلاف الفصول, تطلّ ايضا أعمال الفنان العراقي المغترب في هولندا قاسم الساعدي على تقنيات مختلفة. فاللوحة الزيتية عنده متعددة التقنيات ، ثلاثية الأبعاد كما هو حال النحت البارز والغائر، العمل الورقي، الكولاج، النحاس والسيراميك .
تطلّ الفكرة ببهائها وإغراءاتها ولها الحق بأن تتزيّا بما تستحقه من شكل وما يناسبها من تقنيات.
شكلٌ معماري محكم
فهنالك حوار لم ينقطع مع مفردات الحضارات العراقية المختلفة منذ أيام دراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد ، حيث كان متحف الآثار العراقية ومكتبته المكانين الأثيرين للساعدي بعد الأكاديمية. كان يرسم هنالك الكثير من التخطيطات والدراسات ولغاية الآن. تحولات وتطورات الممارسة التشكيلية شكلاً ومحتوىً، وكذلك التطبيقات والمعالجات المدهشة للكثير من المشاكل التي واجهت الفنان آنذاك، ما تزال مثار انتباه وإدهاش وتجريب .
هنالك الكثير من التجارب التي يمكن وصفها بأنها عابرة للزمن، كالشكل الذي اختاره الفنان السومري لمعالجة ضرورة تعليق عمل يتضمن نحتاً فخارياً بارزاً يحوي صلاة او تعاليمَ او قصيدة دينية . فهو اختار ان يفرغ قلب الشكل المربع لكي يستطيع إلباس هذه القطعة بوتد مربع مغروس في الجدار. إنه شكل حديث بامتياز ، شكل معماري محكم يحتل مكانه على الجدار ويسجل سبقاً عظيماً قبل آلاف السنوات على اللوحة الأوروبية الصالونية التي تأثر بها جميع الفنانين في العالم .
التغنّي بكلكامش
ما تزال منجزات الحضارة العراقية قادرة على الإشعاع ، كما ينعكس ذلك على أعمال قاسم الساعدي النحتية. لنتأمل مثلاً التقنية المذهلة في التعامل مع صب البرونز وتنفيذ تمثال سرجون الأكدي قبل أكثر من ألفي سنة ، إننا لا نستطيع أن نقارنه حتى سبعينات القرن المنصرم بفن النحت في العراق بعد افتتاح أول مصهر للبرونز .
إصرار الفنان قاسم الساعدي على التغنّي بصاحب ملحمة كلكامش، “هو الذي رأى كل شيء”، يأتي رداً على الواقع المزري الذي يجري على أرض صاحب الملحمة من قتل وتخريب وتفتيت لهذا البلد الذي انطلق منه أول الأسئلة الوجودية. لم تتغنّ الملحمة بقوة كلكامش العضلية ولا بثرواته او بانتسابه الى “اوتانابشتم العظيم” إنما بقدرته النفاذة على رؤية الأعمق والأبعد ، الجوهري والإنساني بامتياز. ألا يشكل ذلك نقيضاً و مفارقة مأساوية لما هي عليه الحال الآن حيث يسود الحمق والجهل والرثاثة ، الرداءة والبشاعة ؟
فصول الجحيم
فصول الجحيم العراقي لم تكتمل بعد ولا نعرف حتى الآن شكل القيامة القادمة، فحجم إرث الخراب والأخطاء كبير جداً، قيامة قادمة تضع حداً للمسامير التي ظلّت تثقب القلب عقوداً من السنوات. استعارة فكرة المسامير والثقوب في الكثير من أعمال الساعدي من واقعة فكرة صلب المسيح، الحلاج وغيرهما، توحي بأن قانون الحياة بمعناه الجدلي والفيزيائي يشتغل بالضد من تلك المسامير. تبدو كما لو أنها حتمية من نوع ما، ولكن أيضاً بفعل مقاومة الجميل وضديته للبشع والرديء.
حتى هذه اللحظة يستخدم العراقي مفردة “زرفت قلبي” حين يسمع بخبر فاجعة موت أحد الأحبّة أو انفجار سيارة مفخخة في سوق أو مدرسة للأطفال، الندوب ذاتها منذ كلكامش وحتى اليوم يعالجها قاسم الساعدي بأكثر من تقنية على القماش والنحاس والسيراميك . يقلّبها على أكثر من وجه ليبرز عمق الجرح العراقي الجديد الى جانب الندوب القديمة سواء في الجسد أو الفكر أو المخيلة .
سبق للفنان قاسم الساعدي أن أقام معارض كثيرة في أغلب البلدان الأوروبية والعربية وأمريكا، كما مثّل العراق وهولندا في معارض عالمية مهمة، وهو يقف اليوم في طليعة الفنانين في هولندا .