حسين محمّد عجيل /
صُدم العراقيّون، مساء الأربعاء 17 كانون الأوّل 1969، بنبأ رحيل العلّامة الدكتور مصطفى جواد، عالمهم اللّغوي الكبير، ومؤرّخهم الفذّ، بعد إعلان وزارة الثّقافة والإعلام نعيه الرسميّ من الإذاعة والتّلفزيون.
في تلك الليلة الحزينة نفسها، كانت أمام النّحّات الرّائد محمّد غني حكمت مهمّة عاجلة ومعقّدة ونادرة الحدوث في العراق، وهي أن يصنع قالباً لوجه الراحل مصطفى جواد من مادّة الجبس الخاصّة بالنحت، بعد ثلاث ساعات ونصف من وفاته، ليكون ثاني اثنين من رموز البلاد الثّقافيّة يُصنع لهما مثل هذا القالب، كان أوّلهما الفنّان التّشكيليّ الخالد جواد سليم المتوفّى سنة 1961، والذي نفّذه صديقه النحّات خالد الرّحّال.
واليوم، إذ نحيي ذكرى اليوبيل الذّهبيّ لرحيل الدّكتور مصطفى جواد، وعقب ثماني سنوات على وفاة الفنّان محمّد غني حكمت، نحاول سرد قصّة هذه الواقعة كما رواها شهود غيّبهم الموت أيضاً، من تلامذة مصطفى جواد وأصدقائه، آملين أن تفتح باب التساؤل واسعاً عن مصير هذا الأثر الفنيّ النفيس، واستعادته.
مكانة علميّة وشهرة طاغية
عانى الدكتور مصطفى جواد من مرض القلب، في سنواته الأربع الأخيرات، حتّى توفي على فراش المرض في بيته في حي دراغ بمنطقة المنصور في جانب الكرخ من بغداد، في نحو السّاعة السّادسة من مساء تلك الليلة، ودُفن في مقبرة دار السلام بالنجف في اليوم التالي. ونظراً لمكانته العلميّة البارزة في الأوساط الثقافيّة والأدبيّة والأكاديميّة، داخل العراق وخارجه، وكونه المثقف العراقيّ الأكثر شهرةً بين المواطنين العراقيّين على مختلف طبقاتهم الاجتماعيّة وتباين مستوياتهم التعليميّة، فقد جرى له تشييع رسميّ كبير شارك فيه رئيس الجمهوريّة، مع الألوف من البغداديّين الذين اعتادوا، مع عراقيّي ذلك الجيل، على سماع صوته عبر المذياع وهو يقدّم برنامجه (قل ولا تقل)، كما اعتادوا مشاهدته على شاشة التّلفزيون أسبوعيّاً في برنامج (الندوة الثقافيّة) الذي كان يقدّمه المؤرّخ الرّاحل الدكتور حسين أمين ثمّ الباحث التراثيّ الرّاحل سالم الآلوسي، واستمر يُبَّث مساء كلّ سبتٍ لأكثر من عشرة أعوام متواصلة (1958-1969)، كان مصطفى جواد يفتح فيها كوّةً ضوء ساطع على آفاق منسيّة من ثقافة أجدادهم، ويعرّفهم بتاريخ عاصمتهم الخالدة، وتاريخ بلادهم في عصر العبّاسيّين وما تلاه، مُظْهِراً عناصر القوّة والإشعاع الحضاريّ فيه، كما لم يخفِ علامات الجمود والنّكوص والتّردّي، وكان هدفه الأخير من كلّ ذلك الاستحضار التّاريخيّ الدّائب، أن يأخذ مواطنوه العبرة من الحالين.
“ومع هذا فإنّه لن يموت”
بعد أسبوع على رحيله، أيّ في يوم الأربعاء 24/12/1969، انفردت مجلّة (ألف باء)، وهي مجلّة أسبوعيّة سياسيّة جامعة كانت تصدرها المؤسّسة العامّة للصّحافة والطّباعة ببغداد، بنشر صورة لقالب وجه الدكتور مصطفى جواد على غلاف عددها 75، الموشّح بخلفيّة سوداء، مع عبارة واحدة فقط: “ومع هذا فإنّه لن يموت”.
وكان الغلاف كلّه مخصّصاً لهذا الحدث، وكذلك الصّفحة الثّانية التي نُشرت فيها صورة كبيرة للرّاحل في أيامه الأخيرة، مع عمود بعنوان “البطولة التي ستُخلَّد” كتبه ضياء حسن سكرتير تحرير المجلّة، وقال فيه: “لم يكن إنساناً عاديّاً، كان بطلاً.. لم تعرف «البطولة» عنده حدوداً، ولا أُلبست يوماً بالإدّعاء والتّبجّح. بطولته لم نجدها فقط في علميّته وفصاحته، ولا حتّى ارتباطه الأصيل بالتّراث، بطولته تأكّدت باستحواذه على حبّ النّاس، كلّ النّاس رغم اختلاف المشارب والأمزجة والمستويات الثّقافيّة. سرّ بطولته، يكمن في شخصيّته المتميّزة القادرة على استقطاب مشاعر المحبّة والسّعادة من النّاس بسهولة، في حين أخفق غيره حتّى في استجدائها. أليس بطلاً قوميّاً أسطوريّاً مَن أجمع على حبّه أهل العراق والشّام ومصر، وغيرها من الدّيار والأمصار في الشّرق والغرب..؟”.
قصّة الوجه الشّاحب للرّجل العظيم
يعد الشّاعر يوسف الصّائغ، وهو من تلامذة الدكتور مصطفى جواد، أوّل من عرّف الرأي العامّ بحكاية تنفيذ القالب، وذلك في مادّتين صحفيّتين له، أولاهما كانت كلمة رثاء حارّة بعنوان “سيدي مصطفى جواد”، نشرها في زاويته الثّابتة “أفكار بصوت عالٍ” بمجلّة (ألف باء) الأسبوعيّة البغداديّة، العدد 76، الصّادر يوم الأربعاء 31/12/1969، واعتذر في مطلعها من معلّمه الراحل عن تخلّفه عن شهود جنازته، مختاراً لها صيغة مخاطبة الرّاحل، وكأنّه يحدّثه أو يوجّه له رسالة: “… أمسكني عن السّير في جنازتك يا سيدّي، أربعون فتى، كانوا يجلسون إلى حصّة اللّغة العربيّة”.
وقال في موضع آخر من رثائه: “في زاوية من مرسمِ فنّان، أشاروا إلى قناعٍ من جبس.. وقالوا إنّهم بصموا فيه آخر ملامح الرّجل العظيم الذي كنته يا سيّدي.. لا.. لستَ أنت!
إنّ الذي تخلّف منك هو شيء آخر يا سيّدي- شيءٌ فقد أهمّ ما فيك: الرّوح.. والمرح والمثابرة.. والصّبر.. ولهذا فلن يطيق أحدٌ أن يتصوّر لك الموت.. أو أن يصدّقه”.
كانت هذه هي الإشارة الأولى، غير المدعمة بتفاصيل بشأن القالب، لكنّه سرعان ما عاد إلى سرد حكايته مفصّلةً، ففي العدد التالي من المجلّة نفسها، وبعد ثلاثة أسابيع على رحيل مصطفى جواد، روى الصّائغ تفاصيل تنفيذ النّحّات للقالب، في مادّة مؤثّرة بعنوان “محمّد غني حكمت يروي قصّة الوجه الشّاحب للرّجل العظيم”، نشرت في العدد 77 من مجلّة (ألف باء)، الصّادر يوم 7/1/1970. وقال في مستهلّها: “في عدد سابق تَوّجت ألف باء غلافَها بقناع مصطفى جواد المغمض العينين: زهرة حزن زرقاء.. ووعدت ألف باء أن تحكي قصّة القناع.. حكاية حزينة، كلّ شيءٍ فيها أبيض: الوجه بالجبس.. والغطاء.. واللّيل نفسه”. ومهّد لسرد قصّة تلك اللّيلة بقوله “أراد محمّد غني حكمت أن يصنع تمثالاً لمصطفى جواد، فرفض أستاذنا.. قال إنّه يتشاءم من ذلك”.
وتكتسب مادّته هذه قيمة تاريخيّة، فضلاً عن رسمها مشاعر النّحات النفسيّة وقلقه وذهوله، وهو يسابق الزمن لإنجاز مهمّته غير المسبوقة في تجربته الحيّاتيّة والفنّية، وسط نواح الأسرة وهيبة الراحل الكبير ورهبة الموت، ولذلك أدرجها هنا، لأهميّتها ولانفرادها بتوثيق تفاصيل تلك اللحظات.
شهادة النحّات كما رواها يوسف الصائغ
كتب الصائغ بأسلوب قصصيّ مشحون بالعاطفة، مازجاً بين عبارات النّحات وتوصيفات السارد العليم، في تقطيعات مونتاجيّة متقنة: “في التّاسعة ليلاً اتصل بي الأستاذ سالم الآلوسي، قال: مات مصطفى جواد، تعال!
العدّة: جبس، كاسة نايلون، آلة لصبّ الجبس..
وراح إليه، كان في الطريق معه خوف وحزن، وعدم تصديق لا ينسجم مع ذهابه، وهي أوّل مرّة يمارس فيها صنع قناع، والقناع لا يليق إلّا لعظيم تليق به العدّة، واللّهفة، وعدم التّصديق، والعجلة.
نواح الأهل، والجسد على فراشه مسترخياً. والقاعدة: أن تستعجل العمل، فكلّما تأخّر الوقت أُتيحت للموت فرصة في سرقة المزيد من الملامح الأصليّة، ملامح الرّجل الحيّ. الجسد على فراشه، دونك! تحت غطائه الأبيض..
رفعتُ الغطاء، فرأيتُ وجه الرّجل الكبير الذي غدا منذ ساعات ميتاً شاحباً. وكانت عيناه مغمضتين، وكان نحيلاً.. نحيلاً بشكل غير مصدَّق.
والآن عليك أن تدهن الوجه…
دهنتُه.. كنتُ خائفاً عليه من أن يتّسخ، وأدركتُ أنّني وأنا أدهنه كنتُ أعامله وكأنّه ما يزال حيّاً، وكنت مع هذا في عجلة من أمري.
حلم…
والآن صُنع الجبس.. هكذا على الوجه بسُمْكِ سنتمتر ونصف.
وجلسنا ننتظر.. في الانتظار كان كلّ شيء أبيض.. الوجه بالجبس.. والغطاء واللّيل نفسه.
كنّا ثلاثة… أنا والأستاذ حسين أمين.. والأستاذ سالم الآلوسي وآخر… والصّمت…
ومضت عشر دقائق
…. أسلِمْ وجهكَ لفنّان يرفع الجبس عنه.. واترك لنا يا سيّدي ملامحك.. فأنت رجل عظيم.. ويطاوع الجسم… ولا يطاوع… وتطاوع الملامح.. ولا تطاوع..
ويقول محمّد غني حكمت: لم يكن هو.. لقد كان شخصاً آخر.. هذا المسجّى الذي طاوع الجبس في ملامحه.. أمس.. وأوّل أمس هو في فكري.. وسأعطي الماسك للعائلة…
وبعد: لقد أصبح للبلد قناعان.. أحدهما لجواد سليم.. والآخر لمصطفى جواد..”.
محمّد غني حكمت يتحدّث
وغابت بعد ذلك أيّة دلائل تشير إلى ذلك الأثر الفنّيّ النّادر نحو أربعة عقود، وامتدت العتمة عليه في ليل العراق الطويل، ولكن، ولحسن الحظّ، وبلفتة وفاء متأخّرة، أعاد الفنّان محمّد غني حكمت رواية قصّة تنفيذه القالب مرّة أخرى، بالصوت والصورة هذه المرّة، في مقابلة تلفزيونيّة أجريت معه قبل وفاته بعام، ضمن برنامج وثائقيّ بعنوان “مصطفى جواد”، أنتجته وحدة البرامج الوثائقيّة في قناة (العراقيّة) الفضائيّة سنة 2010، وهو من سيناريو وإخراج مهدي زاهد. وقال فيه إنّ الآلوسي “استعجلني بأخذ كمية من الجبس وكاسة، والذّهاب إلى بيت مصطفى جواد، لأنّ مصطفى جواد توفي، وعلينا أن نأخذ قالباً لوجهه”. مبيّناً أنّ عمل قوالب على وجوه الموتى تقليد معمول به في أوروبا، ولا سيما المشهورين منهم. وذكر أنّ هذه التّجربة “حدثت عندنا في العراق مرّتين، المرّة الأولى عند وفاة المرحوم الفنان الكبير جواد سليم، والتجربة الثّانية حدثت لماسك وقالب العلّامة مصطفى جواد”.
كما ذكر سالم الآلوسي، من جهته، في مقابلة خاصّة في البرنامج نفسه، أنّه ذهب إلى النّحّات محمّد غني حكمت في تلك اللّيلة ليتولى تنفيذ القالب.
والنقطة الجوهريّة التي تطرّق إليها الفنان محمّد غني حكمت، في المقابلة التلفزيونيّة تلك، تأكيده أنّه ما زال محتفظاً بالقالب، حين قال: “أنا محتفظ به في مكان معيّن ببغداد”. ويبدو أنّه لم يسلّمه لأسرة الراحل كما جاء في ختام كلامه المنشور في مادّة يوسف الصائغ الثانية مطلع سنة 1970. وختم محمّد غني حكمت تصريحه بأمنية لم تتحقّق للأسف، قال فيها: “لعلّه يوما ما يكون للمرحوم جناح في مكتبة أو كليّة أو جامعة أو أي مكان أدبي أو المجلس العلمي (لعله يقصد المَجمَع)، فيوضع هذا الماسك رمزاً لهذا العلّامة، الذي هو بالفعل انسكلوبيديا للمعرفة والعلم والتّاريخ والآثار والمعرفة العامّة”.
مصير مجهول
يُذكر أنّ النّحات محمّد غني حكمت توفي بعد عام من تسجيل ذكرياته هذه، وذلك مساء الاثنين 12/9/2011 في العاصمة الأردنيّة عمّان، ودفن ببغداد، وبذلك أصبح مصير القالب الذي نفّذه مجهولاً.
إنّ ثراء إسهامات الدّكتور مصطفى جواد، في أكثر من ميدان معرفيّ، الذي وضعه في عِداد الخالدين، يضع المؤسّسات الثّقافيّة في البلاد، والنّخب الأدبيّة والأكاديميّة وعموم المثقّفين من أبناء هذا الجيل، إزاء مسؤوليّة حفظ تراثه المتنوّع، وواجب تخليد ذكراه، والتزام بنشر المخطوط من كتبه وبحوثه ومقالاته ورسائله، وتجميع وثائقه وصوره وما تبقّى من أرشيف برامجه الإذاعيّة والتّلفزيونيّة، وتسجيلاته الصّوتيّة، والمحفوظ لدى أسرته من حاجاته الشّخصيّة، لتكون مفرداتِ متحفٍ سمعيٍّ بصريٍّ يشخَص أمامَه تمثالٌ يليق بمكانته، على أن يضمَّ هذا المتحفُ قالب الوجه الذي هو ثروة وطنيّة لا تقدّر بثمن، ويتوجّب أن تُبذل كلّ الجهود سعياً للعثور عليه.
وهذه دعوة لوزارة الثّقافة، بأن تسارع إلى الاتصال بأسرته والتنسيق معها لاقتنائه وحفظه من الضّياع، وتكليف أحد النّحاتين البارزين تنفيذه بالنّحاس بما يليق باسمه، ليوضع في مكتبة المتحف العراقي التي أُهديت إليها مكتبته الشّخصيّة النّادرة، أو في قاعة باسمه بكليّة التّربيّة (وريثة دار المعلّمين العالية) التي قضى فيها نحو ثلاثة عقود من عمره أستاذاً، أو المجمع العلميّ الذي شغل عضويّته عقدين كاملين، وكان نائباً لرئيسه مدّة غير قصيرة.