عبد السادة جبار /
في عصر تنوعت وتطورت فيه وسائل الاتصال بشكل كبير أصبحت الكتابة المدونة على الورق وسيلة تحتاج الى قدر كبير من الإبداع لتحقق اتصالها الإيجابي مع القارئ المولع بمثل هذا النوع من الوسائل التي تكاد أن تنسحب أمام وسائل الاتصال المرئية والمسموعة التي استحوذت على اهتمام الإنسان.
مدخل
وتحتاج الرواية المعاصرة الى قدر أكبر من الإبداع لتبقى متزعمة وسائل الاتصال السردية لتتمكن من إيصال رسالتها في هذا السباق المحموم من إنتاج متنوع يمتلك مقومات التشويق والإثارة، ولهذا أصبح الكم الهائل من الروايات العراقية حالة إيجابية، لكنه سبّب إرباكاً للقارئ في عملية الاختيار المناسب حتى لا يندم بعدها على ضياع الوقت.
وأظن الروائي “محمد علوان جبر” قادراً على أن يجعل القارئ مستعداً لصرف هذا الوقت ليقرأ رواية مثل (لماذا تكرهين ريمارك).
المعنى..والشخصيات
ما الذي أرسله المؤلف في روايته للقارئ؟ وبشكل أدق ما الذي وصل إليَّ أنا كقارئ من تلك الرسالة؟
شخصيات غير متشابهة جمعتها الأحداث.. نسجت بداية خيوطها أحداث ما قبل التغيير، وتضافرت أحداث ما بعد ذلك لتحول مصائرها الى ما يشبه الضرورة في أن تستمر وتلتقي عبر سيناريوهات حاولت أن تكتبها بنفسها، إلا أن قوة خفية كانت تتدخل في هذا لتقرر تلك المصائر، وما عليها إلا أن تعدل قليلاً كردود أفعال انفعالية اضطرارية لتحمي هذا الوجود وتجعله مستمراً في الأقل، ولهذا لا نرى في تلك الشخصيات غير كونها مسحوقة انهزامية مصدومة لا تملك غير أن تلتقي وتحافظ على وجودها دون أن تقدم أي دليل تحدٍ غير الهروب والاختفاء والتذكر، وأن تلوذ بمشاعر الحب كرد فعل للخراب السابق واللاحق، وكنوع من التكيف للجانب الإيجابي (شخصيات رئيسة: باجي ثريا وبرهان نوري وهالة وأكرم عبد الرحمن وناصرجواد وبول جوزيف) و (شخصيات ثانوية: سميرة يعقوبي ورندة بعلبكي وآخرون) وفي الواقع كانت رسالة المؤلف قد لخصت وكثفت المعنى عبر الأحداث والشخصيات المختلفة من طبقات وفئات ومناطق ليس من بيئة واحدة لتصل الى نتيجة أن لا صراع طائفياً أو طبقياً، بل إن الجميع وقعوا في جحيم واقع مصطنع فرضته سياسة دولية خارجية مستخدمة جهات محلية.
وبذلك فالمؤلف يحيل الأحداث والمصائر ليس إلى أسباب اجتماعية أو اقتصادية على الرغم من سرده لها في تفاعلات الرواية إلا أنه يشابكها كخيوط نسجت عبر إرادات سياسية على الرغم من أنه لم يورد في روايته خطابات سياسيه مباشره باستثناء الحوارات التي تناولت الجانب الأميركي. إلا أن المؤلف باستخدامه شخصية بول جوزيف أوصل رسالة مميزة حول المعالجة التعسفية الأميركية لأي شرخ يمكن أن يحصل في بنيتها بأساليب تصل إلى حد الممارسات غير الإنسانية، والمؤلف حرص على دمج المعنى المتخيل مع الواقعي ليقدم لنا عملاً يدفعنا إلى التفكير والتفاعل من خلال فكرة السيناريو والتدخلات في الزمان والمكان واستباق الأحداث.
المبنى
الحديث عن البناء السردي في هذه الرواية يحتاج الى وقفة، ومن الضروري أن أعبّر عن رأيي في هذه القراءة، فالروائي محمد علوان جبر لا يغادر لغة السرد الواضحة والقريبة من فهم القارئ، ولا يبالغ في لغة شاعرية أو طلاسم لغوية مع أنه يميل الى الوصف المسهب بتفاصيل تثير الانتباه، لكننا لا نجد فيها حشواً فائضاً عن الحاجة أو تفاصيل وصفية تقليدية، ولهذا فإن فصول الرواية لا تعاني من ترهل أو غموض أو حلقات مفقودة في الوصول للمعنى، لكن ثمّة أمر يثير الانتباه هو تسلسل الفصول، إذ تجاوز المؤلف ذلك التسلسل التقليدي في الأحداث ليقدم لنا سرداً يقترب كثيراً من تقنية (الاستذكار الشبكي) أو ما يسمى في السينما (الفلاش باك الشبكي) ويبدو لي أن محمد علوان يعشق السينما بشكل واضح، فبدت تلك الفصول كأنها سيناريو سينمائي معاصر، لكنها لا تغادر منطقة السرد الروائي، والأمر المثير للانتباه أنني أجريت تجربة شخصية على الرواية، حاولت أن أقرأ فيها فصول الرواية متجاوزاً تسلسل الفصول الذي كُتبت به، فوجدت كأني لا أفقد شيئاً من المعنى ولا من متعة القراءة، وأن المؤلف كتب الفصول دون أن يحتاج الى حلقات ربط أساسية باستثناء الفصول الثلاثة الاخيرة، كما أن المؤلف اقترب بروايته من السرد البوليفوني، إذ لم تنفرد بالسرد شخصية واحدة أو راوٍ واحد فقط.. فقد تولت الشخصيات الرئيسة السرد كلٌّ من زاوية فهمه وقربه من الحدث، وبذلك تجنب المؤلف أسلوب الراوي العليم بكل شيء، كما تجنبَ الإشارة الى ذاتهِ على نحوٍ مباشر، إلا أنه لم يتخلَّ عن ذكر قصته المهمة (العكّاز الأخير) بتوظيفها كسيناريو فيلم سينمائي .
الرموز
ولا بد هنا من أن أشير إلى بعض الرموز اللافتة للانتباه، تلك التي تترك أكثر من مجال للتفسير.
رموز مكانية
البيت القديم، وقطاع 18، والمستشفى، والمزرعة، والغرفه المظلمة.
رموز مادية
تمثال ثريا، والمذياع، والعكاز، والفانوس.
رموز أحداث
دفن الأوراق مع الساق، وتشوه التمثال بفعل المطر، ولعبة البحار، والملثمون والأميركان.
ملاحظتان
أود أن أشير هنا الى ملاحظتين؛ الأولى: عنوان الرواية الذي أشار إليه المؤلف بأنه عنوان لوحة ولم أجد لهذا العنوان تأثيراً جوهرياً في الرواية، ربما لأنني من النوع الذي يجد أن العنونة ينبغي أن تشير الى المتن، وربما ثمة رأي لا يعتقد بذلك.
والأمر الثاني: ثمة خطاب مباشر عن التصرف الأميركي كان بالإمكان حذفه أو تطويعه بعيداً عن المباشرة لأن أحداث المزرعة واعترافات بول جوزيف كانت كافية لإيصال الرسالة.
أخيراً أقول أن رواية (لماذا تكرهين ريمارك) هي إضافة رائعة للسرد العراقي والعربي في جانبيها من حيث كونها رسالة وفناً سردياً يستحق القراءة أكثر من مرة.