د.عالية خليل ابراهيم/
لم يكن الكلام عن العوالم الافتراضية في بداية غزو ثقافة الانترنيت لمجتمعاتنا بهذه الأهمية الاستثنائية التي يبدو عليها في الوقت الراهن، فقد مثل قبل ربع قرن حاجة علمية وثقافية ووسيلة للتواصل والتسلية وتجاوز المسافات ولم يتوقع أحد وقتها إن الافتراض سيتحول الى غول يلتهم الواقع وفلسفة سياسية واجتماعية يتبناها المركز الرأسمالي وتفرض نفسها على مجريات تاريخ دول الهامش فأضحى الكلام يدور حاليا عن دول ومجتمعات افتراضية تحاول نقل متخيل النقاء الديني إلى أرض الواقع ومثالها دولة الخلافة المزعومة .
من هذا المنطلق يمكن القول أن رواية تتحدث عن الواقع الافتراضي جاءت في وقتها تماما رواية “جريمة في الفيس بوك” للقاص والكاتب “علاء مشذوب” تطرح إشكالية الافتراض في علاقته بالواقع،وتقدم صورة للمجتمع العراقي الذي أصبحت إحدى قنوات التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”وسيلة مفضلة للتعارف لديه بل وجزءا لا يتجزأ من حياته،فلا نكاد نسمع شخصين عراقيين يتحدثان إلا ويكون الفيس بوك حاضرا بالاشارة والتعليق والاستذكار والمشاركة.
“جريمة في الفيس بوك” العنوان الذي يبدو للوهلة الأولى تجاريا أو دعائيا نص متشعب ذو سمك دلالي ومتون وهوامش لا يخلو من الطرافة التواصلية والسخرية السياسية طرح حراجة الافتراض ببصيرة نافذة ورؤية فاحصة يأتي سؤال الجنس الروائي والذي غدا افتراضيا هو الآخر في مقدمتها.فكلا الخطابين التواصلي والأدبي اللذين يستخدمان الوسيط اللغوي والتصويري ذاته يقفان بمواجهة بعضهما ويكون أحدهما مرآة للآخر،فمن التخييل القصصي الى الوقائع والأحداث التاريخية الى التدوين السير ذاتي بما يتضمنه من سرد اليوميات المعيشية الى الآراء السياسية ووجهات النظر الثقافية الى الاستشهادات النثرية والشعرية والمشاهد الجنسية الصارخة والنكات الشعبية والبذاءات اللفظية وحتى الوصفات الطبية ينسج السارد الرواية بالتماثل مع ما تعرضه الشاشة الزرقاء نصب أعيننا من بانوراما تدوينية ومرئية تبدو كرنفالا من الهموم الوجودية والايديولوجية والإبداعية والثقافية ،أفكار وآمال وأوهام،هذيان وبصاق وتجشؤ،معتقدات وأساطير وخرافات” لو تأملت في هذا العالم تجد أنه يجعلك مشتتا لا تستقر على شيء فيما أنت تقرأ لأحدهم كلاما عن التفجيرات في العراق تجد الذي يليه يكتب نكتة باهتة تحزنك أكثر من الوضع العراقي نفسه”(الرواية،35).
إضافة للاستشهاد بالمدونات الفيسبوكية قاربت الرواية موضوعة الإفتراض ضمن محاور عدة من أهمها محور وحشية العالم الافتراضي وقسوته من خلال قصة صديق الراوي المولع بالسفر”أحمد الفيسوي” الذي تنشر زوجته خبر وفاته بظروف غامضة أثناء رحلته الى كولومبيا على الفيس بوك عندها تجري مجموعة افتراضية تدعى”البوليس الفيسوي” تحقيقا في سبب وفاته واختفائه من خلال استجواب مجموعة من أصدقائه على شبكة التواصل مما يسبب رعبا للراوي الذي يشعر أنه مراقب ومتهم ،هذا في بداية الرواية أما في النهاية فتتحول قصة”أحمد الفيسوي” الى ما يشبه الفيلم الهوليوودي عندما تسرد أحداث احتجازه عند احد الجماعات الإرهابية هنالك وتتدخل القوات الأمريكية”الكوماندوز” لإنقاذه كونه أحد مواطنيها،تنتهي القصة أو الفيلم بوفاة أحمد الفيسوي الشاعر الحالم الجوال الذي ترك بلاد الموت والخراب الى بلاد السلام والاسترخاء لكن النهاية كانت واحدة الموت العراقي الاليم المترصد بالذات دائما.
هذا السرد المشهدي السينمائي وان تخللته يحكي فيها الروائي بعض يومياته في متابعته للدعايات الانتخابية للمرشحين في انتخابات سنة 2014 مع ذكر آراء بعض الكتاب عنها وقراءاته للكتب والروايات إلا انه يعد من الهوامش الكثيرة التي حفلت بها الرواية وكان من الممكن اختصارها وأن قصد المؤلف فيها ايجاد تناص مع السينما،فالقارئ يجد نفسه مضطرا لتجاوز العديد من الصفحات التي يستغرق فيها الراوي في السرد الفيلمي ليصل الى نهاية اختطاف أحمد الكعبي الملقب بالفيسوي .
المحور الثاني قصة الجماعات التكفيرية الارهابية التي تزامن نشاطها المتصاعد ومحاولتها جمع مؤيديها باستخدام الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي ومنها الفيس بوك، قصة”اعترافات جسد مفخخ”حكاية شاب سعودي يطلب منه والده المتطرف المنتمي للفكر الوهابي الالتحاق بالجماعات الارهابية،يسرد حكايته على شبكات التواصل لتكون تجربته عبرة لهم في تجنب تلك الجماعات فيقدم صورة لحياة الشباب الإرهابيين في تعاطيهم للمخدرات والحشيش وارتباطاهم بجماعات تجارة الرقيق الأبيض والاستخدام التعسفي لجسد المرأة والذي يماثل استهلاك السلاح والتفخيخ. في هذه القصة وقع المؤلف في خطأ زمني/تاريخي ففي البداية يذكر السارد انه ذهب ليجاهد في افغانستان ضد الغزو الروسي الكافر وبعد سنتين ينتقل الى أحداث تواجد القاعدة في العراق عندما تكلف الجماعات السارد بترك أفغانستان والتوجه صوب العراق للقيام بعلميات إرهابية، والمعروف ان فترة ما بعد 11 سبتمبر شهدت انهيارا لمنظمة القاعدة في افغانستان بعد الغزو الامريكي، وجاءت نهاية هذا الارهابي كالتالي” أعلمته بساعة الصفر التي سنفجر انفسنا فيها وطلبت منه ان ينزل سيرتي حتى لحظة كتابتي الأخيرة هذه تحت عنوان اعترافات جسد مفخخ .
المحور الثالث يتحدث عن مساهمة الفيس بوك في إيجاد ثغرات في المسكوت عنه للمجتمعات التقليدية خاصة وان المؤلف اختار مدينة كربلاء ذات السمة الدينية فضاءً للأحداث،قصة “محتجزة” ترويها شخصية كانت معارضة ومطاردة من نظام البعث في التسعينيات،وهو بدون اسم وجميع الشخصيات في الرواية لا تحمل أسماءً وذلك امعانا في محو الخصوصية الهووية لإنسان الحاضر،تدور القصة عن فتاة من كربلاء تضرب عليها الحجب الكثيفة ومحاطة بمجتمع المحرمات لكن ذلك لم يمنعها عن تعاطي جميع المحرمات الدينية والاجتماعية مثل الممارسة الجنسية مع زوج اختها وهو من ضمن محارمها شرعيا،وتمارس المثلية ايضا مع جارتها المطلقة العاقر،بعد خوضها لتلك التجارب وفي محاولة منها للتطهر من خلال الاعتراف بالخطيئة تتصل بالراوي ليلا لتسرد عليه ما تعيشه خلف اسوار بيتهم الذي يبدو مغلقا ومحاطا بالكوابح والمحرمات .المفارقة المميزة أن الراوي الأول في هذه القصة والتي قبلها يذكر تعليقات جمهور الفيس بوك على القصص والتي غالبا ما تكون ذات اسلوب ساخر وفيه تهكم لا يناسب خطورة ما يجري في الواقع وهذه سمــــة مميزة للافتراض فليس هنالك حدود للملهاة أو المأساة في هذا العالم.