قمم موسيقية مغيّبة رحل كوكب حمزة ولا تزال (الگكنطرة بعيدة)

يوسف المحمداوي

“حمزة كان واحداً من أبناء مدينة القاسم الأصليين، فهو سكنها أباً عن جد، وكانت له فيها (علوة) لبيع الحنطة والشعير، وقد تزوج حمزة ثلاث مرات، إذ كان يحتفظ بثلاث زوجات في نفس الوقت، واضعاً كل زوجة في بيت خاص، مع أن وضعه الاقتصادي كان غير مناسب، وأنجب من اثنتين من نسائه عدداً من البنين والبنات.”

بهذه المقدمة يفتتح الكاتب داود أمين فصله الثالث من كتابه (قمم موسيقية مغيّبة)، الذي خصصه لكوكب الموسيقى الراحل كوكب حمزة، بعد أن أتحفنا في فصلين سابقين عن الملحنين كمال السيد وطالب غالي، علماً أنه أنجز الكتاب قبل وفاة رفيق غربته ومنفاه الراحل كوكب حمزة.
(الأم فرفوري والتعليم)
يبين لنا أمين أن والدة كوكب هي آخر زوجات والده حمزة واسمها (فرفوري الفرحان طاقية)، ويصفها بأنها شقراء تتسم بالجمال والذكاء وقوة الشخصية، أنجبت شقيق كوكب البكر (عزيز) عام 1938، ثم شقيقته (رباب) التي سرعان ما وافتها المنية، أما ولادة كوكب فكانت في العام 1944، وأصرت على تسميته (كوكب) برغم إشكالية الاسم بين الذكور والإناث في ذلك الزمن. وفي حديث لكوكب مع صديقه المؤلف يؤكد فيه أن والدته، رغم فقدانها نعمة القراءة والكتابة، لكنها كانت تهتم اهتماماً بالغاً بتعليم أولادها، وضرورة الإبحار في محيطات المعرفة ودفعهم إلى ميادين العلم، وقد يكون دافعها في ذلك هو فقدانها تلك النعمة، وهذا ما جعلها أول امرأة ترسل أبناءها إلى مدينة الحلة لغرض إكمال دراستهم، لعدم توفر مدرسة بعد الابتدائية في ناحية القاسم. وجهودها لم تذهب هباءً، فولدها عزيز تخرج في معهد المعلمين العالي، والكوكب أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة، وهذا الأمر شجع أهالي القاسم على إرسال أولادهم إلى الحلة لغرض الدراسة، هذا الفضل يعود للسيدة (فرفوري) التي كانت المحفز لهم في إرسال ولدها عزيز كتجربة ميدانية أولى، و (طاقية)، التي أتعبتها الحياة وأولادها، كما يقول كوكبنا، أصيبت بالشلل بعد إعدام ولدها عزيز، وسرعان ما توفيت.
العزف على الناي
عن علاقته مع الأب يذكر كوكب أنها كانت سيئة جداً، بحيث أنه لم يحظ ولو بقبلة من والده سوى مرة أو مرتين طيلة حياته، وكان يتحاشى العنف الذي يتبعه مع غالبية أولاده، سواء من أبناء طاقية أو الزوجتين الأخريين، واصفاً علاقته مع إخوته بالنموذجية.
يشير الكاتب إلى مرحلة مهمة في حياة الملحن الكبير، وذلك بعد نجاحه في الثالث المتوسط، إذ قدم على فرع الموسيقى في معهد الفنون، وكانت اللجنة التي تختبر الطلبة المتقدمين تتكون من الأساتذة الفنانين (جميل سليم، وروحي الخماش، وحمدي قدوري)، وقدم كوكب أمام اللجنة عزفاً على الناي، وغنى نشيد (إذا الشعب يوماً أراد الحياة)، ومع ذلك وضع في خانة الاحتياط. كان ذلك في دورة عام 1960 – 1961، ثم قبل بعد أن ظهرت نتيجته ناجحاً في الاختبار. ومنذ السنة الأولى بدأت علاقة كوكب بتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في المعهد، واعتقل بسبب ذلك، وصادف أن يلتقي بالكبير مظفر النواب في المعتقل! وكان ذلك في ما يسمى بإضراب البنزين عام 1961، وقد جرى إطلاق سراحهم بعد فترة قصيرة. بعد تخرجه في المعهد عام 1963 – 1964 بأشهر قليلة عُين في مدينة البصرة، وكانت مباشرته بالتعليم في مدرسة المربد الابتدائية للبنين في نهاية العام 1964، وبقي فيها لمدة أربع سنوات كمعلم للنشيد والدين والعربي، واصفاً فترة تعيينه وعمله في البصرة، التي امتدت لثماني سنوات، من أجمل وأثرى سنوات حياته إنسانياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً، وعزا ذلك لطبيعة المدينة وتحضرها وانفتاحها وجوها الثقافي المميز.
البحث عن أغان جديدة
أتاحت البصرة للفنان أن يقيم علاقات حميمة مع الفنان طالب غالي والمطرب فؤاد سالم وحميد البصري، والأخير كان جدياً في عمله، استفاد الكوكب منه كثيراً، وهو الذي شجعه على الذهاب إلى الإذاعة العراقية، كما أصبح عضواً في الفرقة البصرية التي يقودها (البصري)، التي كانت تضم أيضاً سامي شاكر وأخاه، ولويس توما وطالب غالي، وفيها عازفو قانون وناي وكمنجات وكيتار وإيقاعات وجلو، وكانت الفرقة لاتقدم إلا نتاجات أعضائها، وأعمالها كانت تقدم لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع. ويشير الملحن إلى أنه في تلك الفترة كتب مقالاً عنه بقلم الفنان قاسم حول في صحيفة الثورة البصرية، بعد سماعه لمقطوعته الموسيقية (أمل) قال فيه “تذكروا هذا الاسم (كوكب) لأن هناك آمالاً واسعة ستعقد عليه!”
مع ظهور الأغنية السبعينية بزغ نجما طالب القرغولي وكمال السيد، وكان كوكب مع الملحنين الجدد، يسمع بعضهم بعضاً ما ينتجونه من ألحان جديدة، ويستمعون إلى ملاحظاتهم بالسلب والإيجاب، من دون حساسية أو زعل، وكان ما يقلق كوكب، بل هاجسه الأول، هو بناء أغنية جديدة بعيداً عن الأدوات القديمة، لذلك تجد أغنيته الأولى (مر بيه)، التي لحنها لغادة سالم، من كلمات طارق ياسين، بل إن جميع أغانيه كانت لشعراء يكتبون الأغنية لأول مرة، ومثال ذلك (ينجمة) لكاظم الركابي، و(افيش) لكامل العامري، وعريان السيد خلف في أغنية (لهفة وضنا) وكريم العراقي في (بهيجة) وأبو سرحان في أغانيه (مكاتيب، الگنطرة بعيدة، يبنادم، أم زلوف، الحاصودة، هم ثلاثة).
إرث موسيقي
لم يكتفِ كوكب بتلك الأسماء، فتوافق لحنه مع شعرية زهير الدجيلي، الذي يقول عنه إن لغته عميقة وأكثر ترافة، وما جذبه للدجيلي أكثر أنه كان يشركه في عملية ولادة النص، ويترك له الخيار في انتقاء ما يراه مناسباً من أبيات القصيدة، فجاءت روائع ألحانه بشعرية الدجيلي (ياطيور الطايره، ياهوى الناس، مكاتيب، محطات)، وكوكب هو أول من أدخل أغنية (الهيوه) إلى الإذاعة العراقية.
بعد مغادرته سوريا إلى المغرب، لحن كوكب للمطربتين فاطمة القرياني وأسماء المنور، كما لحن للمطرب الكويتي عبد الله رويشد أغنية (ياصاحبي) من كلمات إسماعيل محمد إسماعيل، وغيرها من الألحان الخالدة.
على الرغم من علاقته السيئة مع والده، لكن كوكباً أخذ عن أبيه عادة تعدد الزيجات، فبعد زواجه الأول من ابنة عمه في العراق، التي أنجبت له ابنه (أسامة)، الموجود حاليا مع والدته في العاصمة الدانماركية كوبنهاغن (الكلام للمؤلف في كتابه الصادر قبل وفاة الملحن كوكب حمزة)، كما أنجبت له امرأة المانية ابنته (جميلة)، كذلك أنجبت له زوجته السورية ابنته (زينة).
في الثاني من نيسان هذا العام 2024 غادرنا كوكب الألحان الكبير كوكب حمزة، في منفاه (الدانمارك)، ليدفن فيها، ويترك لنا إرثاً موسيقياً خالداً تتغنى به أجيالنا الحالية واللاحقة، رغم عدم وصوله (للكنطرة) التي كان يتمناها هو وأبو سرحان (أمشي وگول وصلت والگنطرة بعيدة).