عواد ناصر/
في زيارة خاطفة لبيروت التقيت الشاعر اللبناني عصام العبدالله، لأول مرة، في مقهى اصطفاها ولم يبرحها، هو ومن اصطفاهم جلاس دردشة خفيفة أو تبادل أحلام أو تأمل المدينة العنيدة، مثل بيروت. عصام مدمن مقاه، ما إن يغادر مقهى حتى يكتشف أخرى. المقهى عنده وطن صغير يسيّر به شؤون قلبه. حياته تتألف من مقاه وقصائد.
لم يكن اللقاء إثر موعد مسبق ولا هو لقاء عمل، إنما بدافع شخصي يتلخص برغبة ملحة أن التقي الرجل ولو لدقائق قد تنفتح على صداقة، في ما تبقى من سنوات عمر، لكلينا.
سألت صديقاً: كيف لي أن ألتقي بعدد من فناني وأدباء لبنان، في بيروت، مثل فلان وفلان وفلان. منهم من التقيتهم أثناء إقامتي في بيروت الحرب الأهلية ومنهم لم ألتق به من قبل. قال صديقي: ثمة أكثر من مجموعة. كل مجموعة ولها مقهى.
حسناً لنبدأ بالأقرب والمتيسر.. هكذا انطلقنا إلى تلك المقهى، لتناول “قهوة مرة” عنوان أحد دواوينه، مع عصام العبدالله، الشاعر الذي تصدر لائحة من أحببت لقاءهم، وهناك رأيت من لم أتوقع رؤيتهم. إنها “خصوبة اللامتوقع” حسب تعبير الألمانية حنة أرندت.
على طاولة العبدالله كان زاهي وهبي وعند طاولة قريبة كان عباس بيضون وعلوية صبح وآخرون.
حقاً، يمكن أن تنطلق شرارة الصداقة “من أول نظرة” كما الحب، إذ الصداقة رديفة الحب، فهي تمهد له وترافقه وتعيش معه كتوأم.
فوجئ عصام عندما أخبرته بأنني نسخت إحدى قصائده في دفتر “كشكول” منذ ثمانينات القرن الماضي. كانت منشورة في صحيفة لبنانية. سألني شو عنوانها؟ أجبت: “قهوي”. ترسم فيها شخصية بنت وحيدة قاعدة بالقهوة.
برغم أن قصيدة العبدالله لا يمكن أن تجتزأ بمقطع لأنها مبنية بإحكام مثل حكاية قصيرة، لكنني سأجترئ وأجتزئ:
“مين زعلو تا فج تفاح الحكي/ورجّ المسافي البين شعرك والبكي/مين زعّلو، وينو؟/الجابلك قلم ع العيد حتى يرسمك/ويعلّمك/وعلَّق مرايا بينك وبينو”.
التمتعت عينا عصام بطفولة لم تزل متوقدة.
اعتذر زاهي بلطف لبناني معهود لأنه مضطر للمغادرة فقلت له مازحاً: “خليك بالقهوة” تيمناً ببرنامجه التلفزيوني الناجح: “خليك بالبيت”.
نظلم عصام العبدالله إذ نصفه بأنه شاعر عامية أو محكية، فهو يدرك أن ليس ثمة شعر عامي وشعر فصيح، بل ثمة شعر فقط. لكنه، بحسه النقدي وخبرته الثقافية يشير إلى أن ثمة “زجل” يقوله قوالون، فيه من الشعر أو ليس فيه من الشعر.
..وعصام، بإحساس حاد بالجمال، يلقم قصيدته بانعطافات مفاجئة، مثل كمائن الصيادين ليصطادك، مثال ذلك ورد في المقطع السالف:
“…وعلَّق مرايا بينك وبينو”. يأتي الشاعر بصورة مدهشة وإن بدت غير مألوفة. لكن “غير المألوف” هذا هو إحد مباهج الدهشة.
مثل شاعر كرّس حياته وشعره لمعضلة الحرية، فهو يلخصها بحكاية قصيرة أخرى من حكاياته المُحكمة:
“مرقت حدّي/سألتن عنها/قالوا هَي بنت الحرية/ماتت أمها هِي وزغيري/وربتها اللبوة البريّة/رضعت منها لبن الحورية/وصارت أحلى منها شوية”.
قصيدة العامية اللبنانية، على أيدي أساتذتها الكبار من الرحابنة وطلال حيدر وإيليا أبي شديد وجوزيف حرب اشتغلتْ على ردم الهوة الفنية والتقنية بين العامية والفصحى حتى أن قارئهم، أو سامعهم، يجد نفسه بأزاء شعر لا هتافات ولا “حسچة” تختصر القصيدة إلى عاطفة محلية، بهذا البلد أو ذاك، إنهم عصبة مبدعة مخلصون للشعر حتى العودة إلى البداهة، البداهة المنسية، غير المعروفة التي تبدو معروفة.
يقول عصام العبدالله إن القصيدة نافذة تطل على العالم، وهو يؤكد هنا إنها رؤية كونية، لا لبنانية ولا مصرية ولا عراقية وإن كُتبت بالمحكية.
في العراق، وحده، جرى الفصل العنصري بين القصيدة الشعبية والفصحى، فنشأت كانتونات لغوية وجد كل من الشاعرين، الفصيح والعامي،
نفسه غريباً عن الآخر برغم الأخوة التقليدية بين الأثنين وأبوهم الشعر.
مظفر النواب حقق ذلك برغم إغراقه في العامية المحلية جداً “حسها شدهني ولذت بالجاموسة” أو “هيلك صلف كلش صلف/ تلني ولحس بعراني” استعصب عراقيون هذه اللغة فكيف بالعرب؟
عالمية أي فن تنبثق من محليته. ومن يستزد المزيد فليبحث.
“اللغة” اللبنانية التي أراد لها سعيد عقل أن تكون بديلة للعربية الفصحى بدعوة شوفينية غير موفقة لم تضف إلى اللهجة اللبنانية قيمة فنية أو تاريخية، فهي لهجة شعرية بحد ذاتها من دون تنظير قومي أو محلي ولنا فيما غنته فيروز، بكلمات الرحابنة، وزملائهم، مثال حي على حيوية تلك اللهجة وقد أعيد إنتاجها شعراً مغنى عبر العقود.
انفضت جلسة “القهوة وغادر كل إلى لغته، مع نفسه أو مع أحد مفترض، بينما كنت أتمتم من قصيدة “قهوة” لعصام العبدالله:
“من بعيد شايف الباب انفتح/ومرق الهوا/يمكن بنت يمكن جريدي مارقة/يمكن شبح/سلم على كراسي الحكي/وفات التقح/ع الطاولة اللي
ناطرا حدّي/قعدت بنت وحدا/وأنا وحدي(…) حتى قوله: “كَلَّا ع بعضا مزكرفي/ شعرا مثل رسّام عميرسم عتم بالعاصفي”.
آمل أنك لم تنس ذلك اللقاء الخاطف يا عصام. أنا لم أنسه.