حوار/ علي السومري
شاعر وصحفي وناقد، جايل كبار المثقفين العراقيين، كان لولادته في خمسينيات القرن الماضي بمحافظة ميسان، الأثر الواضح على ثقافته الأصيلة، لكنه، وبالرغم من ولادته هناك، في جنوب القلب، إلا أنه بغدادي الحياة، العاصمة التي قضى فيها عقوداً طويلة مع خيرة الشعراء والفنانين، زميلاً لهم، وكاتباً يشرّح نصوصهم وإبداعهم بعين الناقد الأمهر.
إنه كاظم غيلان، الشاعر الذي بقي ثوبه ناصع البياض، ولم يلوثه بأهازيج الحرب أو تجميل وجه الطاغية الكالح، كما أنه مؤرشف موسيقانا، كيف لا، وهو الشاهد على ولادة أجمل الأغاني والقصائد والألحان الخادة، حتى عدّ مرجعاً موسيقياً، يمنح السائلين عنها أجوبة دقيقة.
رافق الكبار، بدءاً من الشاعر الكبير مظفر النواب، وصولاً لجيل الشعراء الشباب، الذين يرى فيهم نهضة وعي وجمال، كتب في الصحافة منذ سبعينيات القرن الماضي، صدر له ديوان (لون الليالي صعب)، شعر شعبي، وكتاب (مظفر النواب – الظاهرة الاستثنائية).
ومن أجل تسليط الضوء على منجزه الإبداعي، حاورته مجلة (الشبكة العراقية)، حوار ابتدأناه بسؤال:
* بعض الشعراء يصفون أنفسهم بأنهم شعراء القصيدة العامية أو الشعبية، ما الفرق بين الشعرين، العامي والشعبي؟
– علينا بالشعر أولاً، ومن ثم التسميات، في قناعتي أن الشعر العامي هو الأصح تسمية، وهو السائد عربياً، الشعبي تسمية حمّالة أوجه، فالجواهري مثلاً يكتب الفصحى، لكنه متداول شعبياً.
* هل يمكن اعتبار الشعر الشعبي، أو العامي، وجهاً من وجوه الثقافة العراقية؟
– ولم لا؟ في عموم ثقافات العالم تشغل الثقافة الشعبية حيزاً مهماً ومصدراً من مصادر ثقافتها، الذين يشعرون بالتعالي على هذا اللون لم يفهموا الثقافة أصلاً.
* هل اختلف الشعر الشعبي في العقود الماضية عما يكتبه الشعراء اليوم؟
– للأسف المعادلة انعكست تماماً، اليوم تخلّف شعر العامية، ولا يمكن مقارنته بذلك الزهو الذي بلغه في حقبتي الستينيات والسبعينيات، مع أنني أتابع مايكتبه عدد من الشباب بحماس، وأرى فيهم نهضة وعي جميل. فثقافة العنف التي أوغلت في هذا الشعر عند حقبة الثمانينيات وجدت إيغالها الجديد في ظل شيوع القيم العشائرية والطائفية، لذا تجد حتى في طريقة الإلقاء سيادة لصراخ عدواني مقزز.
* يرى البعض أن (المهاويل) يمكن عدّهم شعراءَ شعبيبن. ما رأيك؟
– هذا البعض الذي عنيته في سؤالك، حاضنة لأمراض مزمنة فتكت بعموم الثقافة العراقية، بما فيها قصيدة النثر، التي غدت معظم نماذجها المشاركة في الفعاليات، والمنشورة في الصحف والمواقع خواطر سمجة، قلت رأيي في ظاهرة المهاويل الشاذة، أما أن يرى البعض فيهم شعراء، فيمكن ذلك نقابياً، وليس إبداعياً.
* هل استثمر الطاغية الشعراء الشعبيين لتلميع وجهه والترويج للموت والدم؟
– حاولوا عبثاً تلميع وجهه فسخّموا وجوههم. أما عن استثمارهم، فما الذي يمنعهم وقد تطوعوا أصلاً لخدمته. إن قطيعاً كهذا يعيد تشكله اليوم لطغاة ورؤوس جديدة، وهو لا يرى نفسه إلا في تبعيته وارتزاقه، الأمر لن يكلفه سوى نزع كرامته.
* أنت قارئ مهم وناقد صريح، كيف ترى المشهد الثقافي اليوم؟
– أنا قارئ ومتابع لما يجري في ثقافتنا، أما النقد، فالآخرون ألصقوا بي صفته، التي لم تعد صفة مشرّفة، بعد أن غدت تطلق على كل من يقوم بمداخلة أو تعقيب في الجلسات الثقافية، وكل من ينشر عرضاً لكتاب، بل ولكل عريف حفل أو مدير جلسة. المشهد لا يسرّ، والمثقف الحقيقي يتحمل وزر مسؤوليته بوصفه (حارس قيم وليس بكلب حراسة)، كما عرّفه نصر حامد أبو زيد، صمت المثقف عما يحصل ليس سوى مشاركة في الخراب.
* ما رأيك بكمّ المهرجانات الشعرية، سواء كانت للشعر العامي أو الفصيح؟
– قلت في سؤالك (كمّ) وكأنك مثلي مفتقدٌ النوع. هذا الكمّ تتحمل خياراته المنظمات القائمة على شأن المهرجانات، التي أبعدت الجوهري في الإبداع، وفضلت الهامشي لأغراض نقابية ومجاملات، انظر إلى قوائم المدعوين والمدعوات وستكتشف الأمر بوضوح. مايجري في هذه المهرجانات من تكرار أسماء لا يرتقي إلا للفساد الثقافي، الذي ينافس اليوم الفسادين المالي والإداري.
إن نظام الإزاحة لكل من يختلف بوجهة نظر مع القائمين على هذه الفعاليات يجري بكل وقاحة. الصفقات الانتخابية والولاءات الشخصية، وتبادلية المنافع الرخيصة، هي التي أشاعت هذا الكمّ من الترهات. المهرجانات تنعقد يومياً بوصفها نشاطاً شعرياً ممولاً، لكن أين وقعُ مايقرأ من شعر؟ بعضها ليس سوى لقاء هيئات إدارية تتبادل الدعوات، ولنا في (المربد) خير مثال لهذا الخراب، فلهذا المهرجان (هيبة) رسمية، تسقط وتمرّغ بالوحل في أول يوم قراءات شعرية تتخللها المجازر اللغوية، والدعوات الموجهة فيه تشم منها رائحة الشُللية والمناطقية والنقابية.
* ما سر الجمهور الكبير للشعر العامي أو الشعبي مقارنة بالفنون والآداب الأخرى؟
– لعامل اللهجة السبب الرئيس، إذ إن قصائده غير متكلفة وسريعة الملامسة لوجدان الناس، لكنه ماعاد جمهوراً يتوفر على ذائقة جمالية، للأسف الشديد، لقد حضرتُ وغادرت أكثر من مهرجان بعد أن سمعت حتى صافرات (المطيرجية)!