رنيم العامري/
في عام 1770 وصلت سفينة يقودها القبطان جيمس كوك إلى السواحل الأسترالية، وعندما التقى البحارة بالسكان الأصليين، سألوهم عن الحيوان الواثب الذي يضع وليده في جيب جلدي على بطنه، فكان البدائيون يجيبونهم بكلمة واحدة وهي (Kangaroo)، فاعتقد البحارة أنّ هذا هو اسم الحيوان.
ولكن تبيّن فيما بعد إنّ الكلمة تعني أنا لا أفهم ما تقوله أو Kan Garoo. طبعاً الكلمة مازالت تشير إلى ذلك الحيوان، برغم أنّي في الحقيقة لا أعلم مدى صحة هذه الرواية، لكن حسبي بالنهاية أنها تخدم موضوعة المقال، عن أهمية اللغة، وقوة الكلمة.
حرية الكلمة
يبحث كتاب (تاريخ الكتب الممنوعة) في حرية الكلمة كونها أحد الحقوق الطبيعية “الأسمى والأقدم من كل القوانين”، والتي “لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها”، وكونها “أحد أكثر المنافع ثراءً، وأحد أكثر الحقوق قدرة على صيانة الحقوق الأخرى”، وعلى المشرع أن “يقرّها ويحميها، لأن الصالح العام يرتبط بوجودها”.
اذا كان كذلك لماذا يمضي شاعر إسباني ثلاثة وعشرين عاماً في سجون الديكتاتور الإسباني فرانكو؟، ولماذا يعدم شاعر مثل لوركا ويضيع قبره؟، لكن السؤال الحقيقي هو لماذا ترتعب الحكومة من الكلمة؟ يأتي الجواب من الشاعر أحمد مطر الذي كان نفسه مطارداً من السلطة، فيقول عن جلاوزة الأنظمة (إنّ هؤلاء لا يولدون إلا في مستنقعات الصمت، ولهذا وجب ألاّ تخلو الأرض ممن يديمون حركة الماء بما يقذفونه فيها من أحجار)، وهذه مهمة الشعراء، هؤلاء خدشوا بأظفارهم وجوه السلطة.
الرجل ذو القناع الحديدي
في فترة وصاية فيليب الثاني على عرش فرنسا، وفي عام 1717 اشترك فولتير واسمه الحقيقي (فرانسوا ماري أرويه) في مؤامرة ضد الحكم. وبحجة الكتابة ضد العائلة الحاكمة تم سجنه لمدة أحد عشر شهراً في سجن الباستيل. في السجن اتخذ لنفسه اسم (فولتير). وكم حيكت حول الأسر الحاكمة في فرنسا الكثير من الأساطير والأسرار التي كانت تدور خلف أبواب فرساي المغلقة، ومنها حكاية السجين المقنع، إذ أدّعى فولتير في الطبعة الثانية من (أسئلة الموسوعية)، أنّ سجيناً كان يرتدي قناعاً من الحديد هو الأخ الأكبر غير الشرعي للويس الرابع عشر، وقد أنتج عن هذه الحكاية فيلماً بعنوان (الرجل ذو القناع الحديدي) من بطولة الممثل ليوناردو ديكابيرو. كُتب على العربة التي حملت جثمانه إلى مثواها الأخير إلى جانب جان جاك روسو وباقي عظماء فرنسا “شاعرٌ وفيلسوفٌ ومؤرخ. أعطى العقل الإنساني دفعة هائلة وأعدنا للحرية”.
الشاعر الإسباني ماركوس آنّا
“خطيئتي رهيبة، لقد أردتُ غمر قلب الإنسان، بالنجوم، و لأجل ذلك، خلف القضبان، في اثنين وعشرين شتاء، فقدت كل فصول ربيعي”.
قبل فترة قرأتُ عن رحيل شاعر إسباني قيل في مقتبس الخبر عنه بأنه “المعتقل السياسي الذي أمضى أطول فترة حكم في سجون فرانكو”. عرفتُ أنه كان قد أمضى ثلاث وعشرين سنة في السجن، متهماً بثلاثة اغتيالات كان سبق لمعتقلين آخرين أن أعدموا بسببها رمياً بالرصاص. أودع السجن في سن التاسعة عشرة وخرج منه في سن الثانية والأربعين. قرأت أيضاً أنه قد بدأ الكتابة داخل السجن، أما قصائده فكان يهربها مع الحرّاس تارة، أو قد يحفظها أحدُ صحبِه في السجن ممن انقضت فترة محكوميتهم. قال عنه ساراماغو: “ماركوس آنّا لم ينظر إلى وجهه في المرآة بزهو ورضا، لقد حطَّمه إلى ألف شظية لكي يرى في كلِّ شظيَّةٍ أحد وجوهِ رفاقه”. له مذكرات بعنوان (قولوا لي كيف تكون الشجرة؟)، وكتب أيضاً (إسبانيا بثلاثة أصوات).
موتٌ في غرناطة، لوركا
“لا تنسَني!” كانت هذه آخر كلمات لوركا، قالها وهو يعرف تماماً ما هو مقبل عليه عندما نادت على اسمه من خلف الباب أصواتهم المجوّفة. عندما انتهيت من مشاهدة فيلم (موتٌ في غرناطة) لم أفلح بالتوقف عن النحيب حتى بعد مضي نصف ساعة من انتهائه، كان حزني على موت الشاعر متأخراً ومتجدداً دوماً، برغم إنّ الفيلم – والحق يقال – لم يكن ذا إمكانية سينمائية عالية، لكني أحبّ مشاهدة الممثل (اندي غارسيا) وأحب فيدريكو غارثيا لوركا، شاعر(الساعة الخامسة بعد الظهر). الذي كان كما يقول عنه صحبه (العيد والبهجة، يشعّ علينا وليس لنا إلا أن نتبعه).عندما سألوه أنّ ريحاً ستعصف بالبلاد فلماذا لا يرحل، أجابهم: “أريد أن أكون حيث يضربني البرق، إنّهم لن يحظوا بخوفي”. لكنّي سأترك كل القصائد التي كتبها وأذكر التي في الفيلم، يبدأ المشهد الأول بقصيدة ودم الشاعر، ثم ينتهي كما بدأ بقصيدة ودم الشاعر: “عندما انهارت القيم الأصيلة، تحت أصوات تفتّت الاقحوانات، أدركتُ أنهم قتلوني. مشطوا المقاهي، المقابر، فتحوا التوابيت، وسلبوا الصناديق والخزائن، سحقوا ثلاث جماجم، ليقتلعوا أسنانها الذهبية، ولكنهم لم يجدوني، لم يجدوني”.
أوسكار وايلد
كتب بوضوحٍ تامّ عن ثنائية الخير والشر وتناوبهما داخل الإنسان، عبر روايتيه (صورة دوريان غراي) و(الأمير السعيد)، كما لو أنه كان يراقب ذاته. وبرغم أنّ سبب سجنه ليس سياسياً، لكن قصيدته المطولة (أنشودة سجن ريدينغ) تعدّ علامة في الأدب الإنكليزي، وأدب السجون خاصة، عن رجلٍ يقادُ إلى المشنقة لأنه قتل زوجته، يكتب عن خطواته الأخيرة فيما يمر إلى جانبه “متطلعاً بحزنٍ إلى الخيمة الزرقاء التي يسميها السجناء السماء”:
“الآن عرفتُ ما يثقل فكره، ويحثّ خطاه
ولماذا كان يتطلعُ، بعينين أسيّتين، إلى النهار المبتذل.
فهذا رجلُ قتلَ الشيء الذي أحبه، ولهذا لابدّ أن يموت”.