لمن نؤلّف الكتب؟!

فدوى عبود/
صارت التفاهة، ولاسيما بعد كتاب آلان دونو (نظام التفاهة) تهمة يحاول الجميع درأها عنهم، وبما أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فقد أصبح الكل يقتبس ويضيف ويدافع عن الجدية باعتبارها القيمة الأسمى.
قلة هم من غردوا خارج السرب، ومن داخل الواقع المتغيّر صرّح هؤلاء بأن “التفاهة حالة إنسانية، وهي كبذرة العدم كامنة في قلب الوجود، إن لم تستطع هضمها فلا تُثر حولها الغبار.”

هذا الرأي لا يعدم ركيزة له في النص الكونديري (نسبة إلى ميلان كونديرا)، وفي كل الأحوال فإن الصراع الدائر بين أهل الدار (الكتّاب)، وصل حدّ الاتهامات الصريحة في بعض الحالات، التي تنال دور النشر، وحلقات القرّاء، واليوتيوبرز الذين يسوقون لمن يدفع لهم. ولا تستثن شلل الأصدقاء.
الدور السامي للكتاب
في كل الأحوال يقسم هؤلاء بين من يتّهم الآخرين بتصدير الرداءة، وبين من يتحدث عن فقدان الدور السامي للفن! بينما يقلب الأخيرون شفاههم باعتبار أن الرواية لم تأت لتغير الوجود، وثمة طرف يثق بالتاريخ ويطلب منا أن نترك له مهمة الفرز، إذ إن فروسية الأدب انقرضت مع أول ضربة تلقاها دون كيخوت من طواحين الهواء العملاقة.
وقد حدث للأدب ما حدث للدين فعلياً، “فالرأسمالية والمنطق الاستهلاكي لم ينزلا الآلهة من عليائها فحسب، بل جعلا بيت الآلهة مفتوحاً لمن هبّ ودبّ.” وصارت مقاهي النجمة والخمس نجوم، تحتضن هؤلاء الذين يبدون في غالبيتهم قبيلة ضمن القبيلة.
ولعل المثال الساطع هو تبادل الكرة بين هؤلاء في اتهام الرداءة والكتابات المتعجلة، وإلقاء اللوم في بعض الأحيان على القارئ، وعند هذا الأخير الذي تطلب دور النشر ودّه وجيبه وفي شباكه تحطّ الكرة. لكنه وهو الذي يستفتي شيوخ (الكود ريدز) ومواقع القراءة من باب ضيق الوقت، الذي يملك من الأحكام أكثر مما يطرح من الأسئلة في بنية ثقافية تنتج عقولاً مأخوذة بوهم أنها تفكر؛ وبنية تكنولوجية تجعل كلاً منا طاغية صغيراً، ستصعب مقاومة الإغراء الماثل في توجيه الزناد دائماً لإطلاق الرصاص.
الدسامة والإثارة
قد يتساءل بعضنا: ألا يمكن أن نقول إن الإنسان ذا البعد الواحد، على حد تعبير ماركيوز، يستلزم فناً ببعد واحد.
فن يشبهنا، نتوهم فيه الدسامة والإثارة. فن يشبه وجبات القارئ الجاهزة، يبهر ولا يغذي. يعدُ ولا يورق، فن يزيد نسب الشحوم والإثارة والكوليسترول والإدرينالين، ويخفض مستوى الذكاء لقارئ مشغول بكيف تحصل على السعادة في بضع نصائح. وكيف تتخلص من التوتر؟ وكيف تجني الثروة في أسبوع!
هل يعول عليه في التمييز بين أدب رديء أو عميق، وهل يمكن أن نثق بذائقته الجمالية، التي ضمرت واهترأت تحت سيل الإعلانات التجارية، والبروباغندا الحربية. إنه قارئ واقع تحت طائلة ما يسميه الفيلسوف الألماني (أكسل هونيت) مستخدمًا مصطلح لوكاش (التشييء الذاتي)، إذ “تمنح القيمة لما يحدد ثمن الشيء، لا ما يتضمنه” ولا يرى هذا الكائن نفسه كقيمة حية أو كائن ثمين، بل كأشياء لا هوية لها، أو كعضو ضمن قبيلة أو مؤسسة. هذا الكائن الذي ينشغل بدورات تدريبية، لتعلم تقديم ذاته من أجل المهنة، أو كشريك جنسي على مواقع التواصل والدردشة أو يتقمص شخصية في لعبة كمبيوتر.
أو بتعبير أحدهم: “العالم لم يعد يستلزم أي تعلم جديد، استبدل ذلك بحالة من السعادة البلهاء الهشة، التي يبحث عنها في الأدب كالأثارة والهراء الصوفي، حيث يسود مفهوم الأدب البيّاع.”
كنت في الرابعة من عمري حين واتى الحظ أحد فلاحي القرية وزرع بخلاف الجميع الطماطم، وكان حظه أن سعر الطماطم ارتفع ذلك العام، فصار مشهوراً بالمحظوظ أو البياع. في العام التالي زرع الجميع ثمار الطماطم التي ضربها الصقيع وهبط سعرها. ومع ذلك استمر الفلاحون في التجربة عاماً إثر عام وبخسائر باهظة. إذن وكما في الطماطم قد يحدث في الأدب ولكن العزاء أن ذلك ليس لوقت طويل!
متطلبات السوق
ثمة اتجاه لإقناع الكاتب بأن يصبح أكثر خضوعاً، وأن يراعي متطلبات السوق، بحجة أن القارئ قليل الذكاء، وأنه لابد من أدب يشبهه. وهذه دورة التاريخ، كما أن هذا ليس جديداً، لأنه ومنذ عام 1856 بين (جورج إليوت) أن “الروايات السخيفة الأكثر رواجاً، تُوظَّفُ اللغة السعيدة للاستهلاك، والشعارات السياسية لإيصال رسائل موجزة بسيطة لا تمثل شيئاً، وتهدف إلى الاقناع لا لفتح حوار، أو السماح باستكشاف العمق.”
لا يمكن حصر المسؤولية بالكاتب أو القارئ، كما أن الإجابة عسيرة هنا، والأمور لا تكون عادة في اتجاه واحد. ربما لا يوجد أدب كاذب وآخر صادق، أو أدب يتحرى الحقيقة وآخر يدير ظهره لها، بل يوجد أدب رائج وبضاعة كاسدة، فما يكسد اليوم قد يحييه المستقبل.