علي لفته سعيد /
ما بين مدينة سوق الشيوخ جنوبي محافظة ذي قار، مسقط رأس نبي الله إبراهيم الخليل، ودمشق حيث الرحيل النهائي، امتدّ عمر الشاعر والعلّامة العراقي مصطفى جمال الدين، الذي ينتهي نسبه إلى الرسول الأكرم (ص).. رحلة وصفت بالاعتدال والشعر والشرع، إذ كان الوجه الناصع لرجل الدين المثقّف.. عاش مجايلاً للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وكان أستاذاً جامعياً، لكن شهرته أخذت من قصيدة له عن بغداد وفيها بيت شعري تحفظه الأجيال (بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر– إلا ذوت ووريق عودك أخضر) مثلما اشتهرت قصيدة له عن نكسة حزيران.
الولادة والجذور
ولد مصطفى جعفر عناية الله جمال الدين عام 1927، وهو عالم وفقيه ديني وشاعر وكاتب. كان جدّه الأكبر جمال الدين، الذي تنتسب الأسرة إليه من كبار علماء عصره.. درس في النجف العلوم الدينية، فأكمل مرحلتي المقدمات والسطوح، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة البحث الخارجي، عُيّن معيداً في كلية الفقه في النجف عام 1962م، ثم حصل على شهادة الماجستير من جامعة بغداد عام 1972م، بعدها عُين أستاذاً في كلية الآداب بجامعة بغداد. حصل على شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز من قسم اللغة العربية عام 1979م. كان يدرس العلوم الدينية، وحينها تعرف على شعراء تلك الفترة من أمثال الجواهري والسياب والبياتي ونازك الملائكة. ورغم أنه رجل دين إلّا أنه كان يكتب قصائد في الغزل.
صدر له العديد من الكتب منها: (القياس حقيقته وحجيته) و (الاستحسان حقيقته ومعناه) و(البحث النحوي عند الأصوليين) و (الانتفاع بالعين المرهونة) وكذلك (الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة) و(قصيدة بغداد) و(محنة الأهوار والصمت العربي)،
بالإضافة الى ديواني شعر: (عيناك واللحن القديم) و(الديوان).
الشعر والألقاب
في العام 1996رحل شاعرنا الكبير، ليدفن هناك في مدينة دمشق إلى جوار الجواهري. يقول ابنه الرابع محمد إن الراحل “حمل هموم أمته ووطنه في شعره وجسَّدها فكراً ومضموناً وعاطفة شجية.” وعن البدايات قال إنها “كانت شعرية مثلما هي فقهية، وله بحوث معمقة في مجالات مختلفة من الدراسات الإسلامية والأدبية، سواء في الفقه والأصول أو النحو واللغة والمنطق والبلاغة وعروض الشعر.” وعن العلاقة بينه وبين العائلة قال إنها “تشبه العلاقة بين الوطن وأبنائه، وبين الإيمان ورجالاته.” ويضيف “كان يبتسم دوماً ويقول إن الحياة تصنع الجمال، كما الشعر، فهو أيضاً صانع للجمال، مثلما الشرع الذي هو صانع الإيمان.” وذكر أنه لقِّب بألقاب عدة أهمها “شاعر الشعر والشرع، وشاعر النخيل المقفى، وشاعر الوطن.” وذكر أنه “تغنى ببغداد وكتب عنها ثلاث قصائد تعتبر من قلائد الشعر العربي وأشهرها القصيدة الخالدة (بغداد والعصر الذهبي) التي ألقاها في مهرجان الشعر العربي في قاعة الخلد عام 1965م:
بغدادُ، ما اشْتَبَكَتْ عَلَيْكِ الأعصُرُ إِلَّا ذَوَتْ، ووريقُ عُمركِ أخضرُ
مَرّتْ بكِ الدنيا، وصُبحُكِ مُشمِسٌ وَدَجَتْ عَلَيْكِ ووجْهُ ليلكِ مُقْمِرُ
وَقَسَتْ عَلَيْكِ الحادثاتُ فراعَها أنَّ احتمالَكِ من أذاها أكبَرُ
المناهج الدراسية
ولأن الشاعر له مكانة خاصة، فإن الاتحاد العام للأدباء، وعلى لسان أمينه العام الشاعر عمر السراي، يقول: “نقيم في كل عام مهرجان مصطفى جمال الدين الشعري، كاستذكار له، وذلك في مدينته (سوق الشيوخ).” ويضيف أن “قصائد الراحل دخلت في المناهج الدراسية لما يمثله من ضمير، ليس للأدب فقط، بل للشعب عامة، كونه الشاعر الفقيه المعتدل.” وعن مكانته يقول السراي إنه “صاحب تجربة مهمة في تاريخ الأدب العربي، والشعري منه على وجه الخصوص.” وعما يميز الراحل يقول السراي إنها “العزلة المثمرة عن مشروعات الطغيان، وقول الكلمة الفصل، والقصائد الراكزة إبداعياً، كل ذلك صنع للشاعر وجوداً مهماً.” وزاد في قوله عن قصائده إنه “يكتب الحنين، وإن فيها صفاء الفطرة غير المتكلفة، إذ تجمع في تفاصيلها اللغة العالية، والتعبير الذي يصل إلى القلب.” مختتما قوله إن “قصيدته الخالدة عن بغداد (بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر) بقيت نشيداً وجدانياً تردده الأجيال.”
المكان والبيئة
وعن البيئة والمكان، فقد كان أثرهما على الشاعر مثل أثر النسب الديني.. يقول الباحث باقر الكرباسي إن “جمال الدين كان فحلاً من فحول الشعر في زمانه، ذا منزلة عالية جداً.” وأضاف أن “ولادته في الريف العراقي كان لها أثر كبير، ليلتحق إلى النجف فتكتمل معارفه واطلاعاته.” وذكر أنه “درس متن (الأجرومية) في النحو كدرس أوّلي لطالب العلم الديني، وفهم (قطر الندى) لابن هشام وحفظ رجز (الألفية) لمحمد بن مالك.” ويضيف عن أثر المكان أنه “حين غادر العراق عام 1980 كانت الأمكنة الجديدة لها أثر عليه أيضاً.” ويرى الكرباسي أنه “كان يعيد رسم تاريخ المكان والذاكرة والحلم قبل أن يتلاشى ويغيب، ما يثير انتباه المتلقّي.” ويشير إلى أنه كان “يؤسّس لخصوصيته الشعرية التي كانت تمزج ما بين الزمن والمكان، فقد عاش في زمن الثورات والأمكنة المختلفة، فكانت نصوصه لا تخلو من مضامين الجهاد والسياسة والثورات ضد الاحتلال والطغاة.” بل يذهب الكرباسي بعيداً في قوله إنه “حتى في الفقه كان منتقداً المستغلين.”
وحدة القصيدة
يقول الأكاديمي الدكتور تحسين فاضل عباس إن “الشاعر كان في الطليعة من بين أخدانه، فقد عرفته الحلبات وميزته بقطعه المرهفة وقصائده العامرة، فقد أجاد في مختلف الأنواع الشعرية التي طرقها، كما أن شعره يحفل بالترف اللغوي، والصور الجديدة الشفافة، وعذوبة ألحانه الموقعة على قيثارة عبقريته.” وذكر أن الكثير من المبدعين العرب قالوا في حقه الكثير، ومنهم شاعر العرب الأكبر الجواهري الذي قال “تجد في أبيات جمال الدين الجمال والتأثير، وستبقى أشعاره تنبض بالحياة وأحزان الغربة، وتورف بكل ما هو جميل وبديع وإنساني.” وعن براعته في الشعر قال الدكتور تحسين إنها “قوية ومحكمة في بناء القصيدة وسلامة التعبير وبراعته في رسم الصور الشعرية.”