ناجح المعموري /
أن الإلهة كانت حليمة تجاه «عمالها» و»مستخدميها» أي أنهم كانوا بلغتنا المعاصرة أسياداً طيبين، شريطة أن يتفانى البشر في تحقيق «ما قدر عليهم» وذلك بالعمل على تزويد أسيادهم بكل الخبرات الضرورية للحياة الباذخة والحافلة التي تلائمهم وكل هذه الخبرات الناتجة عن عملهم الدائم والشامل، كان البشر يقدمونها للإلهة من خلال الطقس، وهذا هو آخر مكون من نظامهم الديني وقد كان الطقس من مهام الملك الذي كان من واجباته السهر على احترامه والقيام به.
وفي كل كتاباتهم الإهدائية على امتداد تأريخ البلد، لم يكف الملوك عن تعداد مناقبهم ومزاياهم في هذا الباب عبر تشييد المعابد الفخمة.. وإقامة التماثيل والأنصاب والأيقونات الغالية التي كانت تحتوي بشكل غامض على الإله الذي تمثله، محلاة بأبهى الأزياء وأثمن الحلي والجواهر، وعبر الأفراح الباذخة التي تقام حولها تكريماً وتقديساً لها. وحملها في مراكب وعربات وهوادج من معبد لآخر. وخلال هذه الاحتفالات وطوال أيام السنة كانت مطابخ المعبد تهيئ الأطعمة الفاخرة والوافرة تبعاً لتقنية غنية ومعقدة وباذخة وقد عثرنا على حوالي ثلاثين وصفة طبخ بينت أن أبناء بلاد الرافدين طوروا فناً راقياً للطبخ، في الأقل بالنسبة لعظمائهم، هو فن طبخ حقيقي ولختم هذه الصورة عن البذخ الذي كان يسبغ هذه الأغذية، تسرد لائحة بالمواد التي كان يستخدمها طباخو معبد أوروك وأضاف العالم الفرنسي المعروف جان بوتيرو مؤكداً على الدور الفني والخبرة الثقافية في شؤون المطبخ وتنوع المهارات في العمل والاعداد، واعتقد بأن هذه الخبرات تزاوجت مع ثقافة مطبخ لدول مجاورة وحصل نوع من الحوار والتبادل، ما ساعد على أن يصل المطبخ العراقي بالمستوى الذي أشار إليه العالم الفرنسي جان بوتيرو.
وما كان يستعمله طباخو أوروك لأربع آلهة رئيسة فقط، لتهيئ أربع وجبات يومية: اثنتان صباحاً أحداهما ثانوية والأخرى رئيسة، واثنتان مساء بنفس الشكل، طوال السنة وكل يوم. والأرقام مدهشة جداً وهي 800 هكتو لتر من الجعة الرفيعة 2500 هكتر لتر من الطحين الصالح للخبز 18.000 كبش و 2580 خروفاً و 720 عجلاً 3300 من الإوز والبط المسمن، تثير هذه الإحصائية المتنوعة الدهشة والاستغراب للإفراط والمغالاة الكبيرة بالتبذير وإذا عرفنا بأن هذه الكميات خاصة بيوم واحد فكم ستكون مجاميع الحيوانات وكميات الحبوب خلال شهر كامل، لذا قال عن ذلك جان بوتيرو: أنها مذبحة حقيقية وكرم مدهش، ولابد من التعرف على أن هذه الأطعمة المقدمة يومياً خاصة بغداء الإلهة الأربع في مدينة أوروك، وتوفير حياة باذخة، حتى يتمظهر عن هذا البذخ نوع من الاحتفاء الديني بالهة واعتراف بعظمتهم وهيبتهم، لأنهم ـ الإلهة ـ أسياد الكون والبشر كما قال جان بوتيرو.
وتبعاً لتقاليد ذلك الزمان، كانت ترافق هذه الوجبات، التباخير العطرة، والأناشيد والموسيقى. وقد أشار بوتيرو الى وجود عدد من نصوص تلك الشعائر الدينية المؤلفة خصيصاً لهذه المناسبة، والممجدة لهذه الإلهة والمادحة والمبجلة لها بشتى الأساليب، كما تنطوي على نصوص تستجدي رحمتها ورأفتها وهذا هو الطقس اليومي الذي تكاد تعرفه معابد العراق القديم. وهنا كانت تنتهي واجبات البشر تجاه الهتهم . ذلك انه خلافاً لطريقتنا في النظر والسلوك الصادرة.
أن الطاعة والخضوع لعدد معين من المبادئ الأخلاقية لا يمتان البتة للواجبات الدينية. إذا لم يكن هناك من « وصايا عشر» في بلاد الرافدين، يكفي أن تقام حفلات هذا الطقس « المادي» أن صح القول حتى يكون البشر، خدم سادتهم الإلهة، قد قاموا بكل واجباتهم، وأصبحوا أحراراً فيما يفعلون في حياتهم اليومية. فالشعور الديني الأساس الذي كان يحركهم هو الإجلال والاحترام. ونوع من الرهبة تشبه تلك التي يشعر بها أحط العمال تجاه أسيادهم الراقين مثلما قال جان بوتيرو.
الشعائر الدينية
لم تخل الحضارة الرافدينية من البعد الأخلاقي، لكنه تقليدي بسيط مثل الشرف والكرامة والتعاون، لكن هذه الأخلاق لم تكن ذات طابع ديني على الإطلاق، ولم تكن تكريماً للإلهة، بل مجرد وسيلة لتحقيق حياة اجتماعية، محتملة وممتعة، وحياة شخصية ناجحة تنتج التمتع برغد العيش من دون الأضرار بأحد. ونتذكر كلنا ما قالته صاحبة الحانة للملك جلجامش:
لم تهم هكذا يا جلجامش
فالحياة التي لا نهاية لها التي تبحث عنها لن تلقاها ابدا؟
وحتى خلقت الإلهة البشر
ففرضت عليهم الموت
واستخلصت الخلود لنفسها فقط
أما أنت، فحري بك أن تملأ بطنك
وتضحك ملء أشداقك ليل نهار
اقم الافراح كل يوم
ارقص وابتهج ليل نهار
وتحل بأفخر الثياب
اغتسل واستحم
وانظر بحنو الى طفلك الذي يمسك بيدك
واسعد بحنو امرأتك التي تضمها بذراعيك
لان ذاك هو الأفق الوحيد للبشر!
ويلاحظ في هذا النص المعروف جداً من ملحمة جلجامش الموقف المعروف عن رحلة الملك جلجامش للبحث عن عشبة الخلود، وما قالته صاحبة الحانة وكأنها منحته خبرتها كلها، مقترنة بالحسيات، العلاقة مع المرأة والأكل والاستمتاع بالحياة، فلا شيء أجمل من ذلك إذا كان ميسوراً لبني البشر.
وجعلت الكثير من النصوص المسمارية بذكر العديد من الرمان كما نعهدها اليوم من ذلك الحلو والبابلية « نور مومنقو « ونورما كركو السومرية، كما أن الزيتون من اكثر الأشجار زراعة وورد ذكره في الفلاحة النبطية. كما كانت للفصيلة التفاحية أهمية واضحة في تراثنا الزراعي القديم والعربي الإسلامي. إذا تحفل النصوص المسمارية بالعديد من أنواعه، مازال بعضها يعرف بالاسم فقط دون القدرة على تمييز صفاته. كما أن الخوخ من الفواكه المألوفة لدى العراق القديم. فقد ورد اسمه بالسومرية « دار ـ رو ـ ارق « وبالبابلية بما يماثل هذه الصيغة « وداقو «. والمشمش من الأشجار المهمة في تاريخنا القديم الإسلامي وورد كثيراً في كتب الفلاحة النبطية وأيضا تشير المصادر المسمارية الى التين وهو فصيلة التوت وللتين أربعة أنواع هي : التين البري / التين الازميري / التين العادي / تين سان بيدموت ووردت له اشارات في وثائق تل حرمل وبلاد آشور ومدينة ماري ويقال بأن سرجون الأكدي جلب منه نوعاً غير معروف في العراق كانت ترسل الى المعبد أحسن منتجات الحقول الزراعية والبساتين وقطعان الماشية والأغنام والماعز واستعملت في نواح عديدة.